ما معنى الافتقاد، ولماذا لم يذكر الجيل الثاني، وما ذنب الابناء
للنواميس الطبيعية التي رسمها الخالق أحكامها الحازمة الحاسمة التي لا تجامل ولا تهاون، وفي نطاق هذه النواميس الطبيعية يرث الابن عن والديه أو عن أحدهما حركات وسكنات وسجايا وعادات، منها الكريم ومنها غير الكريم، طبقاً لطبيعة الشيئ الموروث، خيراً كان أو شراً
وقد سجلت قوانين الوراثة حقائق خطيرة جديرة بالتأمل في قدرة الخالق وحكمته، ﺇذ خطط النواميس الكونية في دقتها المرسومة التي تسير بمقتضاها قوانين الوراثة وغيرها من النواميس الطبيعية في هذا الوجود
فالافتقاد المقصود في الآية المذكورة: يقول الرب: أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ. الخروج 20: 5 كناية عن نتيجة تصرفات اﻹنسان التي يورثها لنسله من بعده، والتي تسجلها قوانين الوراثة وتضبط مسارها في غير مجاملة ولا مهادنة ولا ﺇنحياز
ولعل أبا العلاء المعري الشاعر والفيلسوف اﻹجتماعي المعروف، عندما أوصى تلاميذه بأن يكتبوا على قبره: هذا جناه علىﱠ أبي وما جنيت على أحد. كان ضمن ما يهدف ﺇليه من قولته المدوية هذه، اﻹشارة ﺇلى ما أصابه من نكبة فقد بصره، نتيجة لفساد في دمه موروث، عمل على ﺇفساد عينه، وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه، فخرج من البطن ﺇلى الحياة الدنيا مجنياً عليه جناية كدرت عليه صفو الحياة، وقوله: ما جنيت على أحد. يشير ﺇلى أنه وهو عالم بأن جراثيم الفساد كامنة في دمه بالوراثة، لم يشأ أن يتسبب في ﺇيجاد نسل منه يرث عنه ما ورثه هو عن أبيه الذي تسبب في ولادته، فأحجم عن الزواج ﺇطلاقاً، ولم يجن بذلك على أحد
هذه هو المقصود باﻹفتقاد، ولا شك أن المسئولية الأدبية عن هذه الوراثة تقع على الوالد نفسه، لا المولود المجني عليه، الذي جنى على نسله بسوء تصرفه في الحياة، فحمله أعباء الآلام والأوجاع المكدرة لصفو حياته
وطبعاً لا يمكن أن ينسب ﺇلى الله جلت قدرته وحكمته، أنه هو تعالى المتسبب في تعكير صفو النسل الوارث عن والديه مساوئ الوراثة، بل المسئولية على المورث نفسه الذي استهان بالنواميس الطبيعية التي احتقرها وتصدى لها في غباء واستهتار لقوانينها الحازمة، فاصطدم بها وسبب لنسله الاصطدام بها
كما أنه لا شك في أن براءة النسل من الناحية الأدبية لا تعفيه من نتائج اﻹعتداء اﻹجرامي عليه، كما لو ألقى الوالد بطفله من أعلى ﺇلى أسفل فان براءة الطفل لا تعفيه من خطر الموت بأصطدامه بالأرض، أو ﺇذا ألقى به في النار فان براءته لا تعفيه من الحريق، أو في الماء تعفيه من الغرق
أما المورث نفسه فانه حين اصطدامه بناموس الوراثة يتحمل شخصياً مسئولية هذا الأصطدام: لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. رسالة يعقوب 1: 13 - 14
أما تحدي مدى الأفتقاد ﺇلى الجيل الثالث والرابع وعدم ذكره للجيل الثاني لأن الجيل الثاني هو الجيل التالي مباشرة للجيل الأول الوارث المباشر للمورث المجرم؟! وللقرب بينه وبين المورث المجرم، لهذا لا داعي لذكره، لأنه الوريث البديهي للمجني عليه الأول
أما تحديد مدى الافتقاد في الجيل الثالث الرابع، ﺇنما ذلك كحد أقصى لفترة الافتقاد، أي معاناة النسل لآثار الوراثة اﻹجرامية، بشرط كفاح النسل الوارث جيلاً بعد جيل، لمقاومة آثار الوراثة بالعلاج مع اﻹستقامة، وهذا التحديد ﺇنما هو من مراحم الله وحنانه اﻹلهي، وذلك ﻹيجاد المنقذ الكفيل باضعاف شكيمة الوراثة (ضعف سيطرتها والشكيمة هي الجزء المعدني من اللجام الذي يوضع في فم الحصان) الدنسة وضراوتها، وﺇلا فانه ﺇذا أهمل الوارث العلاج وتغاضى عن اﻹستقامة، فقد يتوالى الافتقاد فيتعدى هذين الجيلين الثالث والرابع وﺇلى الخامس والسادس، بل قد تصل الحالة ﺇلى الأمتداد أكثر فأكثر لكي تنتهي بالخراب والدمار والفناء
مع ملاحظة أن النسل وهو يرث نتائج الوراثة السيئة عن المورث الشرير، ﺇنما يكون نسلاً بريئاً من الناحية الأدبية (وقد أوضحنا أن براءة النسل لا تعفيه نتائج الوراثة، طبقاً لأحكام نواميس الوراثة الحازمة الحاسمة) وتأييداً لعدم المسئولية الأدبية بالنسبة للنسل البرئ المجني عليه بالوراثة، قال الرب: مَا لَكُمْ أَنْتُمْ تَضْرِبُونَ هذَا الْمَثَلَ عَلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، قَائِلِينَ: الآبَاءُ أَكَلُوا الْحِصْرِمَ وَأَسْنَانُ الأَبْنَاءِ ضَرِسَتْ؟ حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، لاَ يَكُونُ لَكُمْ مِنْ بَعْدُ أَنْ تَضْرِبُوا هذَا الْمَثَلَ فِي إِسْرَائِيلَ. هَا كُلُّ النُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ الأَبِ كَنَفْسِ الابْنِ، كِلاَهُمَا لِي. اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ. حزقيال 18: 2 - 4
العلامة المتنيح الأنبا لوكاس مطران منفلوط وأبنوب 1930 - 1965 ميلادية
المراجع
مجلة مارجرجس السنة الثامنة عشر - العدد الأول يناير 1966 - صفحة 8 - 10
الكنوز الخفية في المقالات اللوكاسية - للعلامة المتنيح الأنبا لوكاس مطران منفلوط وأبنوب (1930 - 1965 ميلادية) - تقديم نيافة الأنبا ساويرس أسقف ورئيس دير المحرق - ﺇعداد القمص باخوميوس المحرقي - الطبعة الأولى - ﺇصدار يونيو 2007 ميلادية (للميلاد)، بؤونة سنة 1723 للشهداء (قبطية) - الناشر دير السيدة العذراء المحرق، القوصية، أسيوط - رقم اﻹيداع 14917 / 2007 - المطبعة دار نوبار للطباعة - صفحة 377 - 379
No comments:
Post a Comment