للمتنيح الأنبا غريغوريوس - أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي
في الثالث والعشرين من شهر برمودة تعيد الكنيسة باستشهاد أمير الشهداء مارجرجس، عندما نذكر مارجرجس نذكر هذا التعارض والتناقض بين روح الله وبين روح العالم، بين من قام مع المسيح من بين الأموات، وصارت له روح القيامة والرفعة والقامة المنتصبة التي لا تتنزل إلي الخطيئة وإلي رغبات الدنيا، وإنما تتعارض معها وتعلو عليها، وفي هذا تقوم حرب بين العالم والشيطان من جهة، وبين الكنيسة ورجالها وأبنائها المقامين مع المسيح من جهة أخري، وسيظل هذا التعارض دائما قائما، لا مصالحة ولا مهادنة، ولو اصطلحت الكنيسة مع العالم لفقدت الكنيسة مقوماتها، ولابتلع العالم الكنيسة، إنما الكنيسة غريبة لأن المسيح جاء من السماء وأسسها، فأصبحت ملكا له في مملكة الشيطان فهنا تعارض، فلا يمكن يوم من الأيام أن يكون هناك تصالح بين روح العالم وبين روح المسيح، بين الكنيسة من جهة وبين العالم من جهة أخري، فلابد أن تقوم هناك حرب سجال بين الكنيسة وبين العالم.
هذا الشاب الصغير مارجرجس في نحو العشرين من عمره، كان ذلك الإنسان المنتصب القامة، الرفيع، العالي، الذي لا يركع للخطيئة ولا العالم ولا لشهوة ما، لأنهم أغروه بالمنصب العالي وقدموا له كل وسائل الإغراء، الجاه، المنصب، الوعد بأن يتزوج ابنة الملك، وغيرها من الإغراءات أن يقام قائد أعلي.. كل هذه الإغراءات داسها هذا الشاب المقام مع المسيح من بين الأموات، داسها بقدميه وارتفعت رأسه عالية، وكان لابد له جزاء كبريائه علي شهوات الدنيا، وترفعه علي هذه الرغبات والإغراءات من تأديبه، ولابد أن يعاقب عقابا عسيرا، ولابد أن ينتقم منه انتقاما شديدا، ولذلك لم يكف أن يكلف الملك واليا صغيرا أو إنسانا صغيرا من الضباط العاديين من الناس من الموظفين، لإذلاله وتعذيبه وإخضاعه علي الرغم من صغر سنه، لكنهم أدركوا بعد قليل من الزمن أنه نوع آخر ليس من السهل عليهم أن يبتلعوه، وليس من السهل أن يخضعوا رأسه، وأن يخضعوا إرادته، لذلك تقدم إليه الملك بنفسه وبكل إمكانيات الدولة، حتي ليكاد يشعر الإنسان من قصة مارجرجس إنه لم يكن أمام الدولة من مهام إلا مقاومة هذا الشاب الجرئ الشجاع، الذي وقف أمام الملك في صرامة وفي شجاعة وفي قوة، ونزع منطقته العسكرية ورماها في وجه الملك، وأعلن أنه مسيحي ووبخ الملك علي اضطهاده للمسيحيين مبينا له أن المسيحيين أصلح رعيته أمانة وإخلاصا وأدبا وفضيلة، وأنه ليس أحد آخر في كل مملكته في نقاوة سيرة المسيحيين، تعجب الملك من جرأة هذا الشاب الذي خرج في عرف الملك عن الآداب والطاعة، وشتم الملك وآلهته ووصف هذه الآلهة بأنها أحجار وأصنام، كل هذه الأمور جعلت الملك يمتلئ غيظا ويشتعل غضبا، ويجهز كل رجاله ومملكته وكل إمكانياته عددا وعدة، ليقاوم هذا الشاب الصغير الذي لم يكن قد تعدي العشرين من عمره، وهذا دليل علي علو هذه النفسية، علي سموها وعلي قوتها، شاب صغير تقف أمامه المملكة وتقف أمامه جحافل قوة المملكة لكتي تذله وتخضعه فلا يستطيعون أن يقدروا عليه وهذا يدل علي أنه شاب غير عادي، لم يلن ولم ينثن ولم يتراجع، لم يخف، لم يكن في قلبه خوف من كل التهديدات والتوعدات، ضربوه ضربا مبرحا، ووضعوه علي سرير يحمونه بنار بطيئه كأنه يشوي شيئا بالنار، وضعوه علي سرير به مسامير، جرحوه بكل أنواع التجريح، قدموا له عددا من المرات سما زعافا، وكان يرسم علامة الصليب ويشرب فلا يضره السم بشئ، أرسلوا إليه أكثر وأعظم وأقوي رجالهم، أقوي السحرة وسلطوهم عليه، السحرة الذين أذلوا كثيرين، ذلوا أمام مارجرجس وبعضهم رفع يده وآمن بالمسيح وإله مارجرجس. هذا الرجل أو هذا الشاب القديس بصموده وبصبره كسب للمسيح عشرات الآلاف في حياته والملايين بعد مماته، شاب واحد في هذا السن الصغير، لشجاعته وصموده وطهارة سيرته وأمانته لسيده، استطاع أن يكسب الملايين لكنيسة المسيح، ولذلك فإن الصورة التقليدية التي يصور بها القديس مارجرجس ممتطيا الحصان الأبيض، ويطعن التنين، الذي شبه به الشيطان، مثل ما قال الكتاب في سفر الرؤيا وحدثت حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وملائكته، وهنا التنين يقصد به الشيطان، التنين هو الحية القديمة التي عاكست أمنا حواء وكانت سببا في البلية التي ابتليت بها كل البشرية.
مارجرجس ممتطي حصانه الأبيض رمز لطهره ونقائه، وصفائه وترفعه وقامته المرفوعة في المسيح. ممتطي صهوة الحصان الأبيض ويطعن بحربته التنين، هذه الصورة ترمز إلي الزمن الذي ظهر فيه مارجرجس وصراعه مع الوثنية وصراعه مع العالم، وصراعه مع رجال الملك، وصراعه مع أعداء الكنيسة، ونصرته علي الملك وعلي الوثنيين وعلي أعداء الكنيسة، هذه الصورة لا تمثل الحوادث الجزئية التي صنعها مارجرجس في حياته، وإنما تمثل أيضا أن مارجرجس أصبح علما، أصبح رمزا لنصرة المسيح علي أعداء المسيح، وأصبح مارجرجس ذلك البطل الذي بعد استشهاده صار مثلا يمتثل به، هذه القامة المرتفعة في المسيح التي لم تنحن ولم تنثن، ولم تركع أمام التوعدات وأمام التهديدات وأمام الإغراءات، وصار مارجرجس للأجيال كلها علما وعلامة علي المسيحية ونصرتها، وهذه الفتاة صارت أيضا في ذلك الرسم ترمز للكنيسة المنتصرة بجهاد رجالها، ومن بينهم من صار علامة وعلم هذا الشهيد العظيم الذي وصف بأنه أمير الشهداء. إن كلمة أمير الشهداء لم تعط جزافا، ولكن المعروف أن المسيح له المجد هو بذاته الذي أعطي مارجرجس هذا اللقب، ففي إحدي المرات وكان مطروحا في السجن معذبا ومجرحا ومجروحا بآلام شديدة، أشرق عليه المسيح بنوره في السجن وشفاه من جراحاته، وقال له: "لم يقم من بين المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا المعمدان ولم يقم بين الشهداء من هو أعظم منك" نعم يعد أمير الشهداء لأنه تحمل في سبيل المسيح أقسي أنواع العذاب، التي لم يعانها أحد من قبل ولا من بعد بالصورة التي عاناها مارجرجس، وامتدت مدة تعذيبه سبع سنوات كاملة، ولا نعرف في تاريخنا من امتدت عذاباته وآلامه هذه السنوات الطوال، فمارجرجس يعد أمير الشهداء بنطق المسيح له المجد ولأنه قاسي عددا وصنوفا ونوعيات من الآلام من أجل المسيح، لو كان جبل لكان قد انحني، كان أعظم من الجبل الأشم علي الرغم من شبابه الغض، كان قويا ولم ينثن ولم يتنازل عن موقفه وعن ثباته في المسيح، فكان ولايزال مارجرجس مثلا أعلي للشباب الطاهر النقي، الذي أمات أعضاءه علي الأرض، ولم تعد له رغبة ولاشهوة، ولم يعد يشد انتباهه وعود ولا إغراءات من تلك التي يسيل لها لعاب الشباب، كان أقوي من جميع الشباب، كانت فيه روح المسيح، كان قائما ومنتصبا ومرتفعا وعاليا.
هذا هو الشهيد العظيم الكريم بين الشهداء، الذي تحتفل الكنيسة اليوم باستشهاده بعد ذلك العذاب الطويل الذي عاناه سبع سنوات، وأخيرا قطعت رأسه بالسيف وإن كان هو في العالم الباقي الأفضل، لكنه لايزال يخدم، وأرواح القديسين في إيماننا أنها لاتتوقف عن العمل. هذه الأرواح تتردد علي عالمنا وتصنع خيرا، وعرف مارجرجس عند المسيحيين بأنه سريع الندهة. أي أنه يسمع النداء ومارجرجس حي في ضمير شعبنا القبطي وفي ضمير إخواننا المسلمين أيضا. لأن المسلمين يحبون هذا الشهيد ويكرمونه ويعرفون قدره وعظمته، وبطولته وشجاعته، وكثير من النذور تقدم في ميت دمسيس وفي غيرها من الكنائس التي باسمه، تجدون أسماء مسلمين يذهبون ويقدمون نذورهم لهذا الشهيد العظيم مارجرجس. هذا الرجل الذي هو انتقل إلي العالم الآخر وهو سعيد هناك في فردوس النعيم، لكنه يستجيب النداء للذين يستغيثون به، يتحرك مارجرجس في كل العالم ويصنع خيرا ويجيب سؤالات الذين يسألون وفي كل هذا يتمجد اسم الله.
إذا كنا نحيا اليوم فهذا ليس بجهادنا وحدنا ولا بكفاح المسيحيين وحدهم، وإنما لأن هناك سحابة من الشهود، من الشهداء والقديسين، هؤلاء أبطال يدفعون ويستغلون مواهبهم وقدراتهم وإمكاناتهم بل يستغلون صلواتهم وشفاعتهم الدائمة أمام الله، والكنيسة الحاضرة مدينة لهؤلاء الآباء بالتدخل وبالتحرك الذي يتحركون.
إننا في هذا اليوم الذي نذكر فيه استشهاد القديس العظيم مارجرجس نتجه بقلوبنا إلي الله أن يحفظ للمسيحيين كيانهم، ويحفظ لمصر سلامها، ويجعلنا جميعا مستعدين لهذه المعركة الروحية، وأن يعطينا النصرة والغلبة بقوة المسيح الذي قام من بين الأموات، وبصلوات وشفاعات هؤلاء القديسين الأبرار وسؤالات الطاهرة القديسة العذراء مريم والشهيد العظيم مارجرجس.
ولإلهنا الإكرام والمجد إلي الأبد آمين.
مقال للمتنيح الأنبا غريغوريوس – أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي – في جريدة وطنى - ﺇصدار أول: السنة 51 العدد 2471 - ﺇصدار ثان: السنة 9 العدد 437 – يوم الأحد الموافق 3 مايو (أيار) 2009 ميلادية، 25 برمودة 1725 شهداء (قبطية)، 8 جمادى الأولى 1430 هجرية (للهجرة) – الصفحة الثانية (2)، مقالات دينية
http://www.watani.com.eg
No comments:
Post a Comment