إيفا روماني
إن تاريخ البشرية كلها يتلخص فيما بين البلطة والقنبلة هذه العبارة جاءت في مقدمة كتاب فجر الضمير الذي يتبع فيه الباحث الأمريكي المدقق هنري بريستد تاريخ التطور الفكري والروحي في مصر بداية من العصر السابق علي بناء الأهرامات وحتي فترة دخول الديانة المسيحية إلي مصر, بريستد هو أحد أهم المستشرقين الغربيين الذين اجتذبهم البحث في تاريخ مصر بما فيه من أمجاد وبطولات عظيمة, وتشير عبارته السابقة إلي حقيقة مؤلمة للغاية هي أن النزوع إلي التخريب والهدم طغي في كثير من الأحيان علي بدائع الإنتاج الكفري والفني والحقيقة أنه لا يوجد شعب عرف مدي ما في هذه الحقيقة من مرارة قدر شعبنا المصري لكثرة المعتدين الذين تتالوا عليه تباعا, وأنه مما يثير الأسي حقا أن الكثير من تراجم آباء كنيستنا المصرية سطت عليه يد الدهر أو بالأحري يد المستعمر الغاشم فلم يبق منها غير النذر اليسير, وليست تراجم الآباء هي وحدها التي أضاعها الجهل والطغيان, بل إن تعاليمهم أيضا نالها الشئ الكثير التبديد, وكان كتاب تاريخ العالم القديم من بين أهم التراجم المفقودة التي يتوق الباحثون إلي العثور عليها وللأسف الشديد كان خط هذا الكتاب هو نفس خط كاتبه الأسقف الجليل يوحنا النقيوسي الذي لم يبق من سيرته إلا شذرات قليلة تعطينا لمحات خاطفة عن حياته
ضياع النسخة الأصلية للكتاب:
يوحنا النقيوسي هو أحد المؤرخين العظماء الذين تتبعوا أحداث التاريخ في مصر بصفة خاصة وفي العالم كله بصفة عامة وعلي مر العصور متناولا كافة الأحداث التي مرت به منذ بدء الخليفة وحتي أواخر القرن السابع الميلادي الذي عاصره وعاش فيه بنفسه أمثال كثيرين من كبار المؤرخين الذين اتجهوا نفس الاتجاه خلال فترات سابقة من القرون الأولي مثل المؤرخ الكاهن فيليب الذي دون أحداث التاريخ منذ بدء الخليقة وحتي سنة 426 ميلادية في كتابه تاريخ المسيحي, وأيضا المورخ يوليوس الأفريقي الذي عاش خلال الفترة من عام160 ميلادية وحتي عام240 ميلادية, وتقابل مع البابا يار وكلاس البطريرك الـ13 الذي اعتلي الكرسي المرقسي منذ عام332 ميلادية وحتي عام347 ميلادية, وتأثر بروحانيته الفائقة حتي إنه اعتنق الديانة المسيحية فيما بعد علي يده, وكتب هذا المؤرخ الحوليات لترتيب تاريخ العالم القديم, حيث جاءت أخبار اليهود وأخبار التوراة وأخبار اليونان الهيلينيين في أفرع متوازنة ومرتبة ترتيبا تاريخيا شامل جميع الأحداث التي مرت بالعالم القديم منذ بدء الخليقة, أما يوحنا النقيوسي فكان مؤلفه الضخم تاريخ العالم القديم من أهم وأعمق ما كتب, حيث استفاض من خلاله في سرد آلاف الأحداث مسجلا أمورا كثيرة كان قد عاصر معظمها وكان شاهد عيان عليها بنفسه, وثبت بالفعل بعد ذلك أن ما كتبه النقيوسي كان مطابقا تماما لما وضعه كبار المؤرخين في تاريخ مصر القديم خاصة في فترة الفتح العربي لها, ووضع النقيوسي مؤلفه باللغة القبطية باعتبارها اللغة القومية الرسمية للبلاد في تلك العصور, وللأسف فقد فقدت النسخة الأصلية من هذا الكتاب القيم بفعل عوامل الحروب المتتالية وفترات الاضطهاد التي مرت بها البلاد علي مدار العصور المتعاقبة بعد أن ترجم من اللغة الأصلية له أي القبطية إلي اللغة اليونانية, ثم قام الشماس الراهب غبريال المصري قائد الجيش الجبشي بعد ذلك بترجمته إلي اللغة الحبشية وكان ذلك منذ أكثر من37سنة تقريبا أي في حوالي القرن السابع عشر الميلادي,بأمر من الملكة مريم سنا ملكة الحبشة في ذلك الوقت, وأيضا أثناسيوس قائد الجيش الإثيوبي آنذاك, وفي ختام المخطوطة المترجمة من اللغة العربية إلي اللغة الحبشية كتب المترجم الحبشي ما نصه كالتالي: هذا الكتاب المبارك الذي وضعه الأسقف والمؤرخ يوحنا المدبر مطران مدينة نقيوس هو إفادة للنفس البشرية, وقد تضمن العديد من الأسرار الإلهية والعجائب العالية التي أصابت منكري الإيمان المسيحي فما وقت تزلزلت فيه الأرض بسبب إنكار هذا الإيمان الحقيقي, وهلكت نيقية المدينة العظمي بأكملها, وسقطت النار من السماء, وهذا كله كان بسبب أنهم قسموا السيد المسيح إلي طبيعتين منفصلتين, وجعله بعضهم مخلوقا عاديا مثلهم, وزال تاج المملكة بسبب ذلك عن كل ملوك الروم وتسلط عليهم الإسماعيليون والأتراك لأنهم لم يسيروا بالإيمان الحق بسيدنا يسوع المسيح. وترجمنا هذا الكتاب من اللغة العربية إلي اللغة الجعزية أي الحبشية أنا المسكين الحقير عند الناس, الدياكون غبريال المصري ابن الشهيد يوحنا القليوبي بأمر أثناسيوس رئيس جيوش إثيوبيا, وبأمر الملكة مريم سنا ليجعله الرب خلاصا للنفس وحفظا للجسد البشري... بعد ذلك ترجم الكتاب إلي اللغة الفرنسية وطبع في باريس علي يد المستشرق الفرنسي الدكتور زوتنبرج ثم قامت الأستاذة ليزة عزيز إسكندر موجهة اللغة الفرنسية في دمياط بترجمته إلي اللغة العربية, وقام الأب بيشوي عبد المسيح وكيل مطرانية دمياط بإجراء ضبط وتعديل شامل علي بعض الأسماء والإعلام والمعاني والرموز والتواريخ والأحداث المهمة التي أوردها المؤرخ النقيوسي في مؤلفه, وقام بتصحيحها وعمل بعض التعديلات عليها ومن بعده قام الدكتور عمر صابر عبد الجليل أستاذ اللغات السامية بكلية الآداب جامعة القاهرة بترجمة مخطوطة النقيوسي الأصلية إلي اللغة العربية ليفتح بذلك أمام الباحثين نافذة كانت مغلقة منذ ضياع النص الأصلي لها, وأشرف علي الترجمة المؤرخ قاسم عبده قاسم, وصدرت الطبعة الأولي للكتاب مؤخرا في عام2000, ويذكر في مقدمة الكتاب: قمت بترجمة المخطوطة بعد الاطلاع عليها في المتحف البريطاني عام1982, ونشرتها منذ عدة سنوات تحت عنوان تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي, وحقق الكتاب نجاحا كبيرا بعد ترجمته إلي اللغة العربية وتمت طباعته عدة مرات واصفا الكتاب بأنه يعد مرجعا لكل من يريد معرفة التاريخ القبطي, لأن الأسقف يوحنا النقيوسي يعتبر شاهد عيان علي الفتح الإسلامي لمصر ويعتبر أيضا المصدر الوحيد والأساسي في هذه الحقبة التاريخية, مضيفا: أن المخطوطات التي عثرت عليها في المتحف البريطاني كانت عبارة عن صورة في الميكروفيلم
بصفة عامة يعد الكتاب من أهم وأثري كتب التاريخ علي الإطلاق علي مستوي العالم كله حتي الآن, وترجع تلك الأهمية في اعتباره مرجعا تاريخيا ثريا لفترة من أهم الفترات في تاريخ مصر كله وهي أيام دخول العرب مصر بعد أن كانت البلاد خاضعة علي المستوي السياسي لسيطرة الإمبراطور الطاغية هرقل ملك الروم وقبلها كان استيلاء الفرس عليها لفترات طويلة
كان الأقباط مجبرين علي دفع وتسديد غرامات مالية ممثلة في الجزية التي فرضها عليهم المقوقي الحاكم علي إقليم مصر والبطريرك الملكي علي مدينة الإسكندرية آنذاك. معتمدا في جمع هذه البيانات والمعلومات التاريخية علي البحث والاطلاع الموثق والقراءات المتعمقة في كل كتب التاريخ القديم, وكذلك ومعايشته ومعاصرته الشخصية لمعظمها مدونا إياها بمنتهي الوضوح والسهولة, وهو ما يؤكد مدي ما وصل إليه من تعمق في البحث بغزارة فائقة
مشتملات الكتاب وأهم أبوابه:
الكتاب مقسم إلي نحو122 قسما رئيسيا يندرج تحت كل باب منهما عدة فصول مختلفة تتضمن أفرعا عديدة وخص المؤرخ يوحنا النقيوسي مصر بصفة خاصة بأبواب وفصول عديدة, ففي الفصل الأول يتحدث عن الشعب المصري بمختلف مذاهبه ومعتقداته ودياناته باعتباره أول من بحث في المناجم ونقب في الحفريات الأثرية وهم أول من اشتغلوا في صناعة الذهب والمجواهرات الثمينة بصفة عامة, وكانوا أيضا من أوائل الشعوب التي اتجهت إلي العمل في مهنة الفلاحة وحرث الأراضي الزراعية, أما الفصل الثاني فيري فيه المؤرخ النقيوسي أن المصريين جميعا كانت لهم الأسبقية في العمل بصناعة آلات وأدوات الحروب, وفي الفصل الثالث يثبت أنهم الشعب الأول والأوحد الذي فكر في بناء الأهرامات العظيمة في مدينة ممفيس القديمة متحدثا في هذا الفصل علي أهم الظروف والعوامل التاريخية التي أحاطت بقدماء المصريين أثناء تأسيس مدينة أون القديمة أي هليوبوليس أو عين شمس, مع الإشارة التفصيلية فيما بعد إلي أنهم كانوا أول من قام بشق الترع والقنوات, مشيرا إلي أنسيزوستريس كان أول من تولي مسئولية فرض و تحصيل الضرائب من أفراد الشعب المصري, ثم يتطرق في مراحل تالية إلي أهم الملوك والرؤساء والحكام الذين تولوا مقاليد الحكم في مصر والفترة الزمنية التي امتد فيها توليهم أمور الحكم علي البلاد, وأثبت المؤرخ النقيوسي في سياق حديثه أن مليشصادق كان من أسرة سيدوس ابن سيدوس ابن ملك مصر وبلاد النوبة, متناولا كيفية بناء حصن بابليون العظيم في مصر, وفترات حكم الملك الطاغية دقلديانوس علي مصر ومدي اضطهاده المستمر وكراهيته للمسيحيين في هذه الفترة الزمنية
وذكر أخبارا مختلفة عن القديس ثاؤفيلس البطريرك رقم 23, وفي الفصل الرابع من مؤلفه يتحدث النقيوسي عن تأسيس مدينة أبي صير نسبة إلي القديس أباكير واصفا إياه بأنه ذلك الطبيب الماهر والعالم الفذ, وهو من بين أهم الشهداء والقديسين الذين قدموا خدماء جليلة إلي البلاد
وفي الفصل رقم121 من هذا المؤلف الثري أفرد وصفا سريعا لفترة دخول العرب إلي مصر من خلال عدد من المعلومات عاصرها بنفسه خلال هذا الوقت, والغريب في الأمر أن هذا الوصف كان موجزا للغاية, وذلك بعكس تقديمه وشرحه الذي جاء في بقية فصول الكتاب, ومن المرحج أن هذا الإيجاز السريع مرجعه الأساسي هو الترجمة الحبشية لا الأصل القبطي, بسبب عدم أهمية تاريخ الغزو العربي لمصر بالنسبة إلي الإثيوبيين وتضمن الفصل الختامي والأخير عرضا وافيا لكافة الموضوعات التي كتبها الأسقف الجليل يوحنا النقيوسي الـ122 فصلا السابقة
يقول القس الراهب بيجول السرياني أحد المهتمين بعلم المخطوطات التاريخية للكنيسة القبطية: إذا سألت أي مثقف مسيحي عن أهم الوقائع والأحداث التي تمت في وقت دخول العرب والإسلام إلي مصر, فسوف يعتمد علي مخطوطة أساسية تكاد تكون هي الوحيدة للأسقف يوحنا النقيوسي صاحب تاريخ مصر والمكتوبة باللغة الحبشية القديمة, أما أصل المخطوطة نفسها فهو مفقود, والنسخة الوحيدة الموجودة محفوظة بالمتحف البريطاني, وهذا للأسف خسارة كبيرة جدا لأن الأسقف الجليل يوحنا النقيوسي يعد المؤرخ الكنسي الوحيد المصري الذي عاش في القرون الأولي وتناول بنفسه وكتاباته تاريخ مصر العريق ككل في أهم الفترات التي مرت بها, بناء علي هذا فالكنيسة القبطية لا تعرف حتي الآن عن عمرو بن العاص شيئا غير ما جاء في هذه المخطوطات الأثرية
أحوال البلاد في عهد المؤرخ النقيوسي:
عاش الأسقف الجليل يوحنا النقيوسي في عهد باباوية البطريرك بنيامين البابا رقم 38 خلال الفترة من عام625 ميلادية وحتي سنة 664 ميلادية, وهي الفترة نفسها التي تمكن فيها الحاكم الطاغية الإمبراطور هرقل ملك الروم - الذي يعده المؤرخون من أشد وأقسي الطغاة اضطهادا لأقباط مصر علي مر التاريخ - من استرداد مصر من يد الغاصبين الفرس الذين كانوا قد استولوا عليها في بداية عام617 ميلادية واستمر حكمهم للبلاد حتي عام726 ميلادية, وأقام هذا الطاغية المقوقس بطريركا ملكانيا علي مدينة الإسكندرية, وحاكما بأمر الإمبراطور علي إقليم مصر كله. ولعل السبب وراء تعيينه أن الطاغية هرقل كان ذات ميول نسطورية وأراد أن يقهر كل الأقباط في مصر بمختلف مذاهبهم ومعتقداتهم الدينية والاجتماعية لقبول الإيمان الخلقيدوني بشتي الطرق والوسائل المتاحة. لهذا أقام أساقفة خلقيدونيين في جميع إبروشيتات مصر, بهدف إجبار المسيحية علي تقبل هذه العقيدة, والخضوع لها والاعتراف بكل معتقداته الدينية, وعمل الإمبراطور هرقل علي استخدام الأباطرة في سبيل تحقيق هذا الغرض بكافة الوسائل والإمكانات المتاحة من قهر واضطهاد ديني, علاوة علي همهم الأكبر في تحصيل الموارد المالية من الأقباط بدون أسباب, وإجبارهم علي دفع الجزية وجمع الغلال منهم, ثم إرسالها إلي القسطنطينية, ومن شدة الضيق والعذابات المستمرة التي أحدثها المقوقس وتعرض لها بقسوة البطريرك الأرثوذكس آنذاك الأنبا بنيامين اضطر البابا إلي الهرب خارج البلاد لاجئا لأحد الأديرة في صعيد مصر,وظل مختفيا هناك حتي دخول العرب لمصر علي يد عمر بن العاص, وقد سهلت الظروف والأوضاع القائمة في البلاد نجاح دخولهم إلي مصر بمنتهي السهولة, وكتب وقتها عمرو سكا أو خطابا بالأمان إلي البابا بنيامين يؤمنه فيه علي حياته من أي مخاطر أو أضرار يمكن أن تلم به داعيا إياه إلي العودة لكرسيه الباباوي تحت رعايته الخاصة, ووعده أيضا بأن يحتفي به لاسترداد كرامته المهدورة ظلما من قبل, عندئذ انطلق البابا من مخبئه ذاهبا إلي مصر تحت رعاية عمرو بن العاص الشخصية, وبمجرد وصوله إلي البلاد احتفي به الشعب القبطي كله من جميع محافظات مصر في حفل مهيب, واسترد البابا مركزه وكرسيه الباباوي مكروما كما كان
علاقة أنبا بنيامين بعمرو بن العاص:
حول العلاقة الوطيدة والصلة القوية التي جمعت بين كل من عمرو بن العاصي والبطريرك أنبا بنيامين يذكر المؤرخ الكبير يوحنا النقيوسي في الفصل الأخير في كتابه تاريخ العالم القديم الذي خصصه بالكامل لفترة وقوع مصر تحت وطأة الحكم العربي في عهد عمرو بن العاص مؤكدا أن عمرو بن العاص, من فرط حبه لهذا البطريرك وثقته الشديدة برجاحة عقله وحسن تبصره وسعة اطلاعه علي كافة العلوم في جميع الميادين كان كثيرا ما يهتدي برأيه الشخص, ويستشيره في أمور عديدة سياسية واجتماعية وشخصية أيضا, ويذكر المؤرخ النقيوسي في رصده وتسجيله لهذا الشأن إنه لما عاد البابا بنيامين إلي كرسيه البطريركي بدأ يعمل علي جمع شتات الرهبان الذين كانوا قد اختبأوا في مناطق متفرقة في مصر خوفا من بطش الطغيان الخلقيدوني, كما حاول أنبا بنيامين إعادة تعمير وإصلاح الكنائس والأديرة والقلالي الموجودة بها والمنازل الملحقة بها والتي كان الفرس قد قاموا بهدمها وتخريبها من قبل, منها كنيسة مارمرقس التي قام هرقل بتخريبها تماما وضياع أهم معالمها أثناء فتحه لمدينة الإسكندرية, عمل أنبا بنيامين كذلك علي جذب الكثير من الديانة المسيحية لكن لم تمهله المنية لاستكمال هذه الأمور
يذكر النقيوسي أن عمرو بن العاص البلاد عزل البطريرك الخلقيدوني الذي كان هرقل قد أقامه من قبل في آخر أيامه, وكانت هذه الفترة من أهم ما سجله المؤرخ يوحنا النقيوسي في مؤلفه تاريخ العالم القديم حيث كان شاهد عيان لأدق وأبسط الأحداث فيها, الأمر المثير للغرابة حقا أن كاتب المخطوطة لم يتحدث كثيرا عن هذه العلاقة الطيبة التي جمعتهما معا إلا في بضع سطور في الصفحات الأخيرة من مؤلفه الضخم فيقول: ودخل الأنبا بنيامين بطريرك المصريين إلي مدينة الإسكندرية بعد هروبه من الروم في العام الثالث عشر وسار إلي كنائسه وزارها كلها, وكان كل الناس يقولون هذا النفي كان بسبب ظلم هرقل الملك وبسبب اضطهاده للأرثوذكسيين, ولهذا السبب نفسه هلك الروم فيما بعد. يضيف النقيوسي أن جماعة من الرهبان قدموا إلي الإسكندرية من أجل مقابلة البطريرك القبطي البابا بنيامين بعد عودته من المنفي, طالبين منه أن يبارك الكنيسة الجديدة التي بنيت في الصحراء, وهي كنيسة القديس مقاريوس فقال لهم أنبا بنيامين: لقد تغير بالفعل حال الأقباط بعد دخول العرب, فمجدت السيد المسيح إذ جعلني مستحق دفعة أخري من العمران انظر هذه البركة الجليلة وهؤلاء الآباء والإخوة القديسين وإظهار الأمانة الأرثوذكسية وخلصني من اضطهاد وظلم المخالفين من الروم ونجا نفسي من التنين العظيم الطارد لي لأجل الأمانة المستقيمة, ووهبني الله أن أشاهد أولادي دفعة أخري وهم محيطون بي وهم يمجدون الرب يسوع المسيح فرحين... لقد وجدت في مدينة الإسكندرية الآن زمنا كاملا من النجاة والأمن والطمأنينة التي كنت أنشدها بعد العديد المظالم والاضطهادات التي قام بتمثيلها وفعلها معي الظلمة المارقون
مدير الأديرة:
هكذا كانت نشأة المؤرخ والأسقف يوحنا النقيوسي في عهد البابا بنيامين البطريرك رقم38, إلا أنه عاصر وعمل مع العديد من الباباوات الأرثوذكسيين الآخرين في تاريخ الكنيسة القبطية فحين صار النقيوسي شابا بالعا ترك العام وقرر أن يمض إلي برية شيهيت ليبدأ حياته الرهبانية بدير القديس مكاريوس الكبير, ولم يمضي وقتا طويلا حتي نما الراهب يوحنا وتعمق في حياة الفضيلة, وكان يتميز بالقداسة والعمق الروحي وتمكن بسبب حكمته وأمانته الشديدة في أداء خدمته أن يكتسب ثقة واحترام وحب كل البطاركة الذين عاصرهم وعمل معهم, لدرجة أن البابا أغاثون البطريرك رقم39 الذي اعتلي كرسي البطريركية خلال الفترة من عام661 ميلادية حتي عام680 ميلادية, ومن شدة إعجابه وثقته فيه لما رآه فيه من الصفات الحميدة استدعاه من الدير ليقوم بتعيينه في وظيفة سكرتير خاص له يستشيره في كل أموره العامة والشخصية وأمور الخدمة الكنسية أيضا, فأخلص الراهب يوحنا في خدمته ورعايته كما اكتسب يوحنا النقيوسي ثقة البابا يؤانس الثالث البطريرك التالي له رقم40 علي الكرسي الباباوي 680 ميلادية-686 ميلادية ثم البابا إيساك أو إسحق البطريرك رقم 41 من 686ميلادية-689 ميلادية الذي لازمه في كافة أعماله ولدرجة ثقته الكبيرة به كان البطريرك إيساك يستدعيه لمشاركته في حضور مقابلاته الشخصية التي كان يجريها مع أمير البلاد, عاصر أيضا المؤرخ يوحنا النقيوسي من بعد هذا البطريرك البابا أناسيمون البطريرك رقم41 (692 ميلادية-700ميلادية) الذي سامه أسقفا علي مسقط رأسه مدينة نقيوس ونظرا لنقاء ضميره وشفافية روحه وبذله وعطائه في الخدمة وكثرة أمانته أراد البطريرك أن يستفيد من خبراته الغزيرة بنظم الرهبنة ومعلوماته فقرر ترقيته إلي وظيفة رئيس لأساقفة الوجه البحري كلها. وفي هذه الفترة عمل النقيوسي علي تعمير الأديرة والقلالي الملحقة بها, واهتم بها كثيرا, فجمع حوله مرشدين أمناء كثيرين, وظل يمارس قيادة أسقفيته بروح النعمة والأمانة في جذب الكثيرين إلي الإيمان بالديانة المسيحية, وتذكر مدام بوتشر في مؤلفها المترجم إلي اللغة الإنجليزية عن اللغة العربية تاريخ الأمة القبطية أن هذا الأسقف المصلح ظل في وظيفته يعمل بها فترة طويلة من الوقت كان خلالها مصلحا دينيا ومفتشا عاما للأديرة المصرية بصفة عامة لدرجة أنه عرف في هذا الوقت باسمالمدير العام ولقبه أغلب معاصرية أيضا بمدير الأديرة
نياحته:
وعاصر الأسقف والمؤرخ العظيم يوحنا النقيوسي في مراحل حياته الأخيرة عهد الدولة الأموية (661 ميلادية- 750ميلادية), وهي المرحلة التي لاقي فيها أقباط مصر أشد أنواع الاضطهاد وبسبب دفاع النقيوسي المستمر عن الإيمان المسيحي ومحبته للمسيح وأمانته وقوميته وعشقه لوطنه وللمصريين بصفة عامة - ألقت السلطات القبض عليه, وعزل عن كرسيه الباباوي وتم نفيه إلي إحدي الجزر النائية المعزولة في النيل, ليمضي هناك الأيام الأخيرة من شيخوخته حيث أصيب بمرض خطير أفقده بصره تماما, وظل هكذا حيث كان بعض المؤمنين من الأقباط الذين تمكنوا من الهروب من الاضطهادات يعتنون به حتي تنيح بسلام وفارق الحياة في بداية القرن الثامن الميلادي, أما تاريخ انتقال هذا الأب الفاضل علي وجه التحديد فهو غير معروف حتي الآن
مدينة نقيوس:
أما مدينةنقيوس مسقط رأس الأسقف المؤرخ يوحنا النقيوسي فيذكر بتلر أنها كانت مدينة ذات أهمية دينية وتاريخية وحضارية عظمي في العصور القديمة كلها علي الإطلاق, فتوافرت فيها كل مقومات الحضارة والنهضة الروحية, حيث يذكر التاريخ القبطي أن هذه المدينة كانت مسقط رأس كثير من القديسين والشهداء في مختلف العصور
المراجع:
قديسو مصر-ترجمة الأب بول شينودورليان
مختصر تاريخ الأمة القبطية-مدام بوتشر
يوميات يوحنا النقيوسي-ترجمة المستشرق الفرنسي الدكتور زوتنبرج
تاريخ مصر-الدكتور عمر صابر عبد الجليل
قصة الكنيسة القبطية-المجلد الثاني-د.إيريس حبيب المصري
تاريخ الكنيسة القبطية-القس منسي يوحنا
صور من تاريخ القبطية-رسالة مارمينا بالإسكندرية-العدد الرابع-عام1950
أعداد أرشيفية مختلفة من جريدة الأخبار بتاريخ13, 27 سبتمبر عام2000
فتوح مصر
No comments:
Post a Comment