Showing posts with label الشعب التائب. Show all posts
Showing posts with label الشعب التائب. Show all posts

Monday, February 25, 2013

يونان في البحر الثائر


إن كان يونان قد هرب من الخدمة إلى يافا ليبحر إلى ترشيش في عصيان الله، الأمر الذي أثار البحر بنوء عظيم حتى لم يهدأ إلاَّ بإلقائه فيه، فمن جانب آخر فإن يونان يُمثل السيد المسيح حامل خطايانا الذي ألقى بنفسه في بحر حياتنا المضطرب ليهبنا سلامًا فائقًا خلال ذبيحة المصالحة

دعوة يونان                       1 - 2

هروبه إلى ترشيش               3

يونان والنوء العظيم              4 - 7

يونان والنوتية                    8 - 12

يونان في جوف الحوت          13 - 17


دعوة يونان

وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي. يونان 1: 1 - 2. وفي الترجمة السبعينية: صعد صراخ شرهم أمامي

كانت الدعوة الفريدة في نوعها، فهو النبي الوحيد الذي دُعي لخدمة مدينة أممية لا ليتنبأ عنها بالدمار وإنما ليدعوها للتوبة حتى لا يحل عليها الغضب الإلهي. ولم يكن ممكنًا لهذا النبي أو غيره أن يتقبل مثل هذه الدعوة ليس لكراهية نحو الأمم وإنما لحبه لشعبه، كما سبق فقلنا أن خلاص الأمم إنما يتحقق مع زلة إسرائيل، وإيمان العالم خلال جحود الشعب القديم رو ١١: ١١. فَأَقُولُ: أَلَعَلَّهُمْ عَثَرُوا لِكَيْ يَسْقُطُوا؟ حَاشَا! بَلْ بِزَلَّتِهِمْ صَارَ الْخَلاَصُ لِلأُمَمِ لإِغَارَتِهِمْ. فَإِنْ كَانَتْ زَلَّتُهُمْ غِنىً لِلْعَالَمِ، وَنُقْصَانُهُمْ غِنىً لِلأُمَمِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ مِلْؤُهُمْ؟ رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 11: 11 – 12. على أي الأحوال، إذ كان يونان غير قادر بفكره البشري أن يتقبل الدعوة فهرب، لكن الله الذي يرى نقاوة قلبه إستخدم حتى هروبه لتحقيق مقاصده الإلهية نحو الأمم

جاء في الترجمة السبعينية: لأنه قد صعد صراخ شرهم أمامي، فإن كانت الحياة المقدسة تتجلى في أكمل صورها في السيد المسيح الذي لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. متى 12: 19. فإن الحياة الشريرة تحمل في أُذني الله صراخًا أو ضجيجًا لا تقبله السماء ولا يستريح له خالقها، يكشف عن فقدان السلام الداخلي. لقد قتل قايين الشرير أخاه هابيل وصمت بفمه عن الحديث في هذا الأمر لكن بصمات شره كانت تصرخ منطلقة خلال دم إخيه المسفوك، إذ يقول الرب: صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ. التكوين 4: 10، كما قيل في شر سدوم وعمورة: إِنَّ صُرَاخَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ قَدْ كَثُرَ، وَخَطِيَّتُهُمْ قَدْ عَظُمَتْ جِدًّا. التكوين 18: 20

لقد دُعي يونان، الذي يعني إسمه: حمامة، للكرازة في نينوى المدينة العظيمة التي ارتفع صراخ شرها حتى السماء، وكأن الله أراد أن يحطم صرخات الشر بوداعة الحمامة، ويعالج الجراحات الملتهبة بالزيت اللين، ويطفيء النار بالماء

إن كان العالم قد تحول إلى ضجيج لا ينقطع وصرخات ظلم مرّة فهو في حاجة إلى الكنيسة أو المؤمن الحقيقي الذي له العينان الحمامتان.. هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ. عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ. نشيد الأنشاد 1: 15. هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ! عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ. شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ. نشيد الأنشاد 4: 1. عينا السيد المسيح القائل: اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. متى 11: 29، عينا الروح القدس الحمامة الحقيقية، لكي بالوداعة نرث الأرض.. طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. متى 5: 5 لحساب السيد المسيح فتصير ملكوته المملوء فرحًا وسلامًا

إن كان الأشرار أرضًا لا سماءً بسبب محبتهم للأرضيات وتعلقهم بالزمنيات، فإذ نحمل فينا يونان الحقيقي، نكسبهم بوداعة روحه القدوس فلا يصيروا بعد أرضًا بل سماءً. وكما يقول القديس يوحنا كليماكوس: يجد الرب راحة في القلوب الوديعة، أما الروح المضطربة فهي كرسي الشيطان. الودعاء يرثون الأرض أو بالحري يسيطرون عليها، أما ذو الخلق الشرير فيطردون من أرضهم.. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ. فَأَلْقَوا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. يونان 1: 7

إن كانت نينوى المدينة العظيمة تمثل الجسد الذي ترتفع صرخات شهواته الشريرية أمام الرب فليس من يقدر أن يرفع عنه هذه الصرخات إلاَّ يوناننا الحقيقي الذي يملأ النفس ويقدس  الجسد أيضًا


هروبه إلى ترشيش

فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، فَنَزَلَ إِلَى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ، فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنَزَلَ فِيهَا، لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. يونان 1: 3

لماذا أراد يونان الهروب إلى ترشيش من وجه الرب عوض الذهاب إلى نينوى؟

أولًا: يرى القديس چيروم أن يونان لم يحتمل الذهاب إلى نينوى فتخلص على حساب شعبه إسرائيل، فعصى الرب لا عن كراهية في القلب وإنما عن غيرة من جهة شعبه، وكأنه يمتثل بموسى النبي الغيور في قوله: إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت... فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ، وَقَالَ: آهِ، قَدْ أَخْطَأَ هذَا الشَّعْبُ خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ، وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ. الخروج 32: 31 - 32. فقد ظهر موسى كمن يقاوم الرب لكنه إقتنى مراحم الله لشعبه ولم يمح الله إسمه من كتابه. بنفس الروح يقول الرسول بولس: فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُومًا مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ، الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ. رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 9: 3 - 4. لقد اشتهى لو حُرم هو نفسه لكي يحيا إخوته بالمسيح، حاسبًا موته ربحًا، بهذا الحب لم يمت بل استحق الحياة التي إشتهاها لهم. هكذا خشي يونان من كرازته للأشوريين أعداء إسرائيل هلاك إسرائيل نفسه، فهرب إلى ترشيش، أي الاتجاه المضاد. يرى البعض أنها ترتيسوس الواقعة في جنوب أسبانيا قرب جبل طارق، أو قرطاجنة في شمال أفريقيا

ثانيًا: كلمة ترشيش كما يرى القديس چيروم تعني بحر أو تأمل في الفرح، فإن كانت كلمة يافا بالكنعانية تعني جمال، فإن يونان عوض أن ينطلق خلال وصية الله إلى الكرازة لنينوى بالخلاص إستحسن النزول إلى جمال فكره البشرية وحكمته الإنسانية أي إلى يافا ليلقي بنفسه في ترشيش أي في بحر هذا العالم أو في التأملات المفرحة دون الجهاد الحق وحمل الصليب عمليًا. هذا التصرف يمثل تصرفات الإنسان السالك حسب هواه لا حسب وصية الرب الصعبة

ثالثًا: يونان النبي وهو يعرف أن الله إله السماء الذي صنع البحر والبر.. فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا عِبْرَانِيٌّ، وَأَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ. يونان 1: 9، وقد يشهد بذلك، إذ يتكيء على فكره البشري خارج الإيمان يندفع نحو الهروب من الله. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: حقًا لقد هرب من البر لكنه لم يهرب من غضب الله! هرب من الأرض لكنه جلب على نفسه العواصف في البحر.. فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ. فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟ لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا. يونان 1: 10 - 11. كان يليق به بالحري لا أن يهرب من الله بل إلى الله، ففيه وحده يجد المؤمن سلامه وأمانه


يونان والنوء العظيم

إن كان يونان قد هرب إلى البحر من صانع البحر نفسه لهذا استدعاه الرب بلغة جديدة تليق به كهارب هي لغة الضيقات المتوالية، إذ أَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ. يونان 1: 4. صار الرب يحدثه بلغة الريح الشديدة والنوء العظيم والسفينة الفاقدة لاتزانها، الأمور التي تُناسب يونان وتكشف عما في داخله من ريح عصيان عنيف، ونوء اضطراب داخلي عظيم، وسفينة قلبه غير المتزنة

يقول القديس چيروم: يُشير هروب يونان إلى حال الإنسان بوجه عام فباحتقاره وصايا الرب هرب من وجهه وسلم نفسه للعالم فاشتد به نوء العالم ليغرق، عندئذ إلتزم بالتأمل في الله والرجوع إلى من هرب منه... كانت السفينة في خطر... والأمواج هائجة بواسطة الرياح... فإنه متى كان الرب غير راضٍ لا يكون شيء في أمان

سمع الغرباء صوت الله بالرغم من عدم معرفتهم له، بينما تثقلت أُذني يونان عن السماع، إذ قيل فَخَافَ الْمَلاَّحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلهِهِ، وَطَرَحُوا الأَمْتِعَةَ الَّتِي فِي السَّفِينَةِ إِلَى الْبَحْرِ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُمْ. وَأَمَّا يُونَانُ فَكَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَى جَوْفِ السَّفِينَةِ وَاضْطَجَعَ وَنَامَ نَوْمًا ثَقِيلاً. يونان 1: 5. كان الملاحون وثنيين، ومعرفتهم عن الله يشوبها الكثير، ومع ذلك إذ تحدث الله بلغة الشدة والضيق إمتلأوا خوفًا ولم يتصرفوا إلاَّ بعد أن صرخ كل واحدٍ منهم إلى إلهه، فكان الله بالنسبة لهم أولًا وقبل كل شيء بالرغم من عدم معرفتهم له

يقول القديس چيروم: لقد ظنوا أن السفينة بأمتعتها الطبيعية ثقيلة جدًا ولم يدركوا أن الثقل قائم بسبب النبي الهارب. لقد خاف الملاحون فصرخ كل واحد إلى إلهه، إذ كانوا يجهلون الحق لكنهم لم يجهلوا العناية الإلهية. خلال تدينهم الخاطيء عرفوا شيئًا وأدركوا بعض العمق الروحي... أما إسرائيل فلم يستطع الوسع ولا الألم أن يقوداه إلى معرفة الله. لذلك بكى يشوع على الشعب كثيرًا أما عيون الشعب فكانت جافة

كان الوثنيون يصرخون إلى آلهتهم ويلقون بأمتعتهم في البحر، كل واحد يصلي ويعمل قدر إستطاعته، أما يونان وهو يدرك أنه سبب البلية فنزل إلى جوف السفينة لينام نومًا ثقيلًا، وكأنه أراد ألاَّ يرى أمواج غضب الله عليه، أو كمن تناول مخدرًا ليهرب من واقعه المؤلم

إن كان نوم يونان يمثل نوعًا من الرخاوة، لكنه في نفس الوقت قدم لنا جانبًا نبويًا طيبًا، فمن جهة كان يمثل البشرية المُستريحة في الرب وسط أمواج هذا العالم المضطرب. فعندما كان هيرودس مزمعًا أن يقدم الرسول بطرس ليقتله، كان بطرس يغط في نومٍ عميق وهو مربوط بسلسلتين بين عسكريين في السجن وتحت حراسة مشددة.. وَلَمَّا كَانَ هِيرُودُسُ مُزْمِعًا أَنْ يُقَدِّمَهُ، كَانَ بُطْرُسُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ نَائِمًا بَيْنَ عَسْكَرِيَّيْنِ مَرْبُوطًا بِسِلْسِلَتَيْنِ، وَكَانَ قُدَّامَ الْبَابِ حُرَّاسٌ يَحْرُسُونَ السِّجْنَ. أعمال الرسل 12: 6. ومن جانب آخر كان يونان يمثل السيد المسيح الذي نام على الصليب كما في السفينة ليُقيم حواء الجديدة من جنبه المطعون تنعم بالراحة الحقيقية فيّه، لقد نام أيضًا على الصليب لكي يُدفن في بطن الحوت ليقوم واهبًا إيّانا قوة القيامة. وكما يقول القديس چيروم: بينما كان الآخرون في خطر إذا به في أمان ينام ويقوم. وبناء على طلبه وبسرّ آلامه خلّص الذين أيقظوه... فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟ لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ. يونان 1: 11 - 12

نعود إلى الملاحين ورئيسهم لنجدهم يتصرفون بحكمة فائقة مع لطف ووداعة، إذ قيل: فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ. فَأَلْقَوا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. يونان 1: 6 - 7

اتسم رئيس النوتية بوداعة فائقة في حديثه مع النبي الذي يغط نومًا في وقت كان الكل فيه يصرخ ويصلي ويلقي بالأمتعة في البحر... لقد تحدث برقة زائدة لم يجرح فيها مشاعره، حثه على الصلاة بلطف، الأمر الذي لا نجده أحيانًا في المؤمنين بل وفي الرعاة أنفسهم، إذ يفقدون سلامهم عند التوبيخ ويخسرون هدوءهم ليصلحوا من شأن الآخرين

نقول أن الله الذي سبق فتحدث مع النبي ربما خلال رؤيا أو إعلان للعمل في نينوى، عاد ليحدثه خلال الطبيعة الثائرة، وإذ سد أُذنيه حدثه خلال الوثنيين، قائلًا له: مالك نائمًا، قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك. وكأنه يقول: مالك نائمًا في داخل قلبك، فإن إلهك الذي تهرب منه يقدر أن يخلصنا نحن الأمم من الهلاك، إن كنت تحب شعبك وأمتك فانصت إلى توسلاتنا وتطلع إلى إشتياقنا ولا تستهن بإيماننا، فإن كنا لم نعرف بعد الإله الذي تعبده، لكننا بالإيمان نقبله فلا نهلك

والعجيب أن البحارة ألقوا قرعة فكشف الله عن الحقيقة وأدركوا أن يونان علة غضب الله... وكما يقول القديس چيروم: إن كان الله أرشدهم خلال القرعة إنما يحدثهم خلال فكرهم، فلا يبرر هذا إستخدامنا للقرعة. لقد أرشد الله بلعام خلال أتانه... فَفَتَحَ الرَّبُّ فَمَ الأَتَانِ، فَقَالَتْ لِبَلْعَامَ: مَاذَا صَنَعْتُ بِكَ حَتَّى ضَرَبْتَنِي الآنَ ثَلاَثَ دَفَعَاتٍ؟. العدد 22: 28، ليعلن له أن الحيوان الأعجم أدرك ما لم يدركه الإنسان في شره، وكما تحدث الله مع المجوس خلال النجم، وكما سمح لقيافا أن يتنبأ وهو لا يعرف حين قال أنه ينبغي أن يموت واحد عن الشعب كله. على أي الأحوال إن كان يونان في حبه لشعبه استهان بخلاص الأمم فخلال القرعة كشف له الله أنه لا يحتقر أمميًا، إنما يحدثهم بلغتهم ويكشف لهم عن الحقيقة حتى خلال ممارستهم فما قدمته القرعة حمل توبيخًا إلهيًا خفيًا ليونان المُستهين بخلاص الأمم


يونان والنوتية

فَقَالُوا لَهُ: أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟ مَا هُوَ عَمَلُكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ مَا هِيَ أَرْضُكَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا عِبْرَانِيٌّ، وَأَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ. يونان 1: 8 - 9

وفي وسط التيارات العنيفة والنوء الشديد والخطر المحدق كنا نتوقع في النوتية أن يفقدوا سلامهم وهدوءهم، لكنهم أثبتوا أنهم حكماء، فإذ رأوا في يونان سرًا صاروا يسألونه عن كل حياته بالتفصيل... طالبين المعرفة الحقة. فكانت أسئلتهم توبيخًا لطيفًا إستخدمه الله لإصلاح يونان نفسه، ففيما هم يسألون كان يليق بيونان أن يُراجع نفسه في تصرفاته. وكما قال القديس چيروم: كان هدف القرعة أن يضغط النوتية عليه ليعترف بلسانه عن سبب هذا النوء وعلة غضب الله. أي ليعترف بعصيانه للرب وهروبه من ذاك الذي خلق البحر والبر

وقد جاءت الأسئلة بالنتيجة المرجوة إذ اعترف قائلًا: أنا عبراني، وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر. وكما يقول القديس چيروم: إنه لم يقل أنا عبراني قاصدًا اللقب الخاص بشعبه الذي ينتمي إلى أحد أسباطه، إنما قصد أنه عابر كإبراهيم، وكأنه يقول: أنا ضعيف وراحل كسائر آبائي، وكما جاء في المزمور: عبروا من مدينة إلى أخرى ومن مملكة إلى شعب آخر... إنني خائف من الرب إله السماء وليس من الآلهة التي تضرعون إليها العاجزة عن الخلاص. إنني أتضرع إلى إله السماء الذي صنع البحر والبر، البحر الذي أهرب إليه، والبر الذي أهرب منه

اعترف يونان بخطئه فتعرف البحارة على الله المخوف بحق، إذ قيل: فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ. يونان 1: 10. أدركوا أنه إنسان مقدس هارب من الله القدوس لذا سألوه لا توبيخًا له وإنما كما يقول القديس چيروم: استفسارًا عن سرّ تصرفه

بعد تمتعهم بمعرفة الله سألوا يونان: مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟ لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا. يونان 1: 11

يقول القديس چيروم: كأنهم يقولون: إنك تقول بأنه بسببك صار الريح والأمواج والبحر في هياج. لقد كشفت لنا عن سبب المرض فافصح عن الدواء. هوذا البحر يرتفع ضدنا، وعرفنا أننا صرنا موضع غضب لأننا أخذناك. أخطأنا إذ إستضفناك، فماذا نفعل حتى يسكن غضب الله علينا؟ ماذا نفعل بك؟ هل نقتلك؟ لكنك من مؤمني الرب! هل نحتفظ بك؟ إنك هارب من الله! الآن ليس لنا إلاَّ أن نُنفذ أمرك، فلتأمر حتى يهدأ البحر، فإن إضطرابه يشهد عن غضب الخالق... لا يمكن التأجيل بعد، أمام انتقام الخالق؟

فَقَالَ لَهُمْ: خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ. يونان 1: 12

قدم يونان العلاج وهو طرحه في البحر الهائج فيسكن النوء العظيم، فقد كان هذا النوء بسبب عصيانه للرب فلا يهدأ إلاَّ بإلقائه في المياه لتوبته، ومن ناحية أخرى فإن يونان كممثل للسيد المسيح حامل خطايا العالم كان لابد أن يُلقى به على الصليب ويُسلم للقبر لينعم المؤمنون به بالمصالحة مع الآب ويدخلون إلى سلامه الأبدي

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: توقع يونان أن يهرب بواسطة السفينة، فإذا بالسفينة تكون له قيودًا. ظن أنه قادر على الهرب من إله البحر خلال سفينة فأمسك به وسط المياه الثائرة داخل السفينة ليحصره وسط الضيق ويدخل به إلى التوبة. إستخدم الله ذات الوسيلة التي ظنها يونان لهربه من يد الله لكي يمسك به ويرده إليه. ما أجمل العبارة التي قالها القديس يوحنا الذهبي الفم: لم تكن هناك حاجة إلى أيام كثيرة ولا إلى نصائح مستمرة لكن في بساطة نقول كانت الحاجة أن يقوده كل شيء إلى التوبة (أي يستخدم الله كل الظروف لخلاصه). فالله لم يقده من السفينة إلى المدينة مباشرة، وإنما سلمه البحارة للبحر، والبحر للحوت، والحوت لله، والله لأهل نينوى، وخلال هذه الدائرة الطويلة ردّ الشارد حتى يعرف الكل أنه لن يمكن الهروب من يد الله... وَلكِنَّ الرِّجَالَ جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ. يونان 1: 13

يُعلق القديس چيروم على الكلمات التي نطق بها يونان مع البحارة، قائلًا: إن هذا النوء يبحث عني، يُهددكم بالغرق لكي تمسكوا بيّ وبموتي تحيون! إنني أعرف بالحقيقة أن هذا النوء العظيم هو بسبي... هوذا الأمواج تأمركم أن تلقونيّ في البحر فتجدون هدوءًا... لنلاحظ هنا عظمة الهارب فإنه لا يراوغ ولا يكتم الأمر ولا ينكر بعدما اعترف بهروبه من الله، وإنما يتقبل العقاب بقلب متسع. يُريد أن يموت ولا يتحطم الآخرون بسببه

وللقديس چيروم أيضًا تعليق جميل على كلمات يونان هذه بكونها نبوة عن عمل السيد المسيح - يوناننا الحقيقي - الذي قَبِلَ أن يموت ليفدي الشعب كله، إذ يقول: يوناننا يقول: إنني بالحقيقة أعرف أن هذا النوء العظيم عليكم هو بسببي، فإذ تراني الرياح مبحرًا معكم إلى ترشيش أي إلى (التأمل المفرح)، أقودكم إلى المجد، حتى حيث أوجد أنا هناك تكونون أنتم أيضًا عند الآب، لهذا يحدث غضب. العالم يبكي والطبيعة تضطرب! الموت يُريد أن يبتلعني لكي يقتلكم في نفس الوقت وهو لا يدرك أنه يأخذني كطعم، فبموتي يموت هو! خذوني إذن واطرحوني في البحر


يونان في جوف الحوت

وَلكِنَّ الرِّجَالَ جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ. فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ وَقَالُوا: آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا، لأَنَّكَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْتَ (أو كما أمرت). يونان 1: 13 - 14

أبرز هذا السفر في بساطة الجوانب الطيبة لهؤلاء الأمميين، ففي البداية لم يلقوا بأمتعتهم ولا تصرفوا بحسب خبرتهم كبحارة إلاَّ بعد أن صرخ كل واحد إلى إلهه، فوضعوا آلهتهم أولًا قبل خبرتهم الأمر الذي يتجاهله كثير من المؤمنين. مرة أخرى حين ألقوا القرعة ووقعت على يونان لم يجرحوا مشاعره بكلمة ولا أهانوه بالرغم من الخسائر الكثيرة التي لحقت بهم بسببه، وحتى عندما اعترف بخطئه وأشار إليهم بطرحه في البحر حاولوا إنقاذه بكل وسيلة، وإذ فشلوا تمامًا وأدركوا أنها مشيئة الله أن يطرحوه في البحر كانوا في رعدة يخشون غضب الله، ويسألونه ألاَّ يسمح بهلاكهم من أجل نفس هذا الرجل! ألم تكن هذه التصرفات المملوءة حبًا ورقة وحكمة كافية لتوبيخ يونان الذي دعاه الرب لخلاص الأمم في نينوى فهرب! لقد قدم له عينة من الأمميين يفوقون المؤمنين أنفسهم. لو قورنوا باليهود الذين لهم الشريعة ومعهم النبوات ورأوا أعمال المسيح العجيبة وشهادة السماء والأرض والبحر وكل خليقة له، حتى بيلاطس الأممي غسل يديه أمامهم ومع ذلك صرخوا: دمه علينا وعلى أولادنا، ألا يُحسبون أفضل منهم

يعلق القديس چيروم على تصرفات الملاحين، قائلًا

كانوا يريدون أن يسحبوا المجداف ويهزموا الطبيعة حتى لا يفضحوا نبي الرب.. ظنوا أنهم قادرون أن يخلصوا السفينة من الخطر ولم يضعوا في اعتبارهم الدور الذي يقوم به يونان أنه يجب أن يتألم. القديس چيروم

عظيم هو إيمان الملاحين، فقد كانوا في خطر ومع هذا كانوا يصلون من أجل حياة الغير. عرفوا جيدًا أن الموت الروحي أبشع من الموت الطبيعي، إذ قالوا: لا تجعل علينا دمًا بريئًا. يجعلون الله نفسه شاهدًا حتى لا يتهمهم فيما لا يستطيعون عليه، وكأنهم يقولون له: لا نُريد أن نقتل نبيك إنما هو أعلن عن غضبك عليه، والنوء أكدّ إرادتك يا رب، هذه التي نحن نتممها بأيدينا. القديس چيروم

بينما لا يود الأمم موت المسيح مؤكدين أنه دم بريء.. فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!. فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا: دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا. متى 27: 24 - 25، إذا باليهود يقولون: دمه علينا وعلى أولادنا، لهذا متى رفعوا أيديهم نحو السماء لا يُستجاب لهم، لأن أيديهم مملوءة دمًا. القديس چيروم

ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ. يونان 1: 15

يقول القديس چيروم: لم يقل أمسكوه أو انقضوا عليه بل أخذوه كمن حملوه باحترام وإكرام، وطرحوه في البحر مسلمًا نفسه بين أيديهم بلا مقاومة، عندئذ وقف البحر عن هيجانه، إذ وجد من كان يبحث عنه. عندما نقتفي أثر شارد نجري وراءه بكل قدرات أرجلنا، وإذ نمسك به نتوقف بالغنيمة. هكذا كان البحر هائجًا بدون يونان، وإذ أُخذ في أعماقه من كان يشتهيه إبتهج بأخذه إياه وعيَّد له وهدأ فرحًا

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في إلقاء يونان العاصي في البحر إشارة إلى طرد الخطية من سفينة حياتنا ليعود إلينا سلامنا الحق الذي نزعته آثامنا، إذ يقول: إضطربت المدينة بسبب خطايا أهل نينوى، وإضطربت السفينة بسبب عصيان النبي. لذلك ألقى البحارة يونان في العمق فحُفظت السفينة. لنلق نحن أيضًا خطايانا فتبقى مدينتنا في أمان أكيد

ويرى القديس چيروم في إلقاء يونان في البحر إشارة إلى آلام السيد المسيح، التي نزعت عن بحرنا هياجه، وخلصت السفينة ومن بها من الخطر. خلال آلام السيد المسيح إمتلأ العالم سلامًا داخليًا فائقًا

فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُورًا. يونان 1: 16

إذ أُلقى يونان في البحر إي احتمل السيد المسيح الآلام حتى الموت خلصنا من العبادات الوثنية القديمة، واهبًا إيانا مخافته العظيمة وتقديم ذبيحته الكفارية الفريدة وإيفاء نذورنا للرب أي تكريس حياتنا له تمامًا

يقول القديس چيروم: عندما مات يونان الهارب في البحر خلصت السفينة التي هزتها الرياح وخلص عابدوا الأوثان. كما يقول: قبل آلام الرب تضرعوا إلى آلهتهم تحت تأثير الخوف.. فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ. يونان 1: 10، أما بعد الآلام فخافوه بمعنى عبدوه ومجدوه.. لقد خافوه خوفًا عظيمًا إي من كل النفس ومن كل القلب ومن كل الفكر فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ. التثنية 6: 5؛ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. متى 22: 37. وذبحوا ذبيحة؛ بالتأكيد لا تعني المعنى الحرفي، إذ لا توجد ذبائح في البحر، لكن ذبيحة الرب إنما هي الروح الأصيل، وكما قيل: قدموا للرب ذبيحة الحمد، أوف للعلي نذورك.. اِذْبَحْ للهِ حَمْدًا، وَأَوْفِ الْعَلِيَّ نُذُورَكَ. المزامير 50: 14

إذن بطرح يونان في البحر أو دخول السيد المسيح إلى آلامه حلّ علينا روح المخافة الإلهية، وصار لنا حق تقديم ذبيحته المقدسة، وإيفاء نذورنا له

وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتًا عَظِيمًا لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال. يونان 1: 17

لم تسر الأمور بلا تدبير أو تخطيط إلهي، لكن الله الذي أرسل الريح الشديدة فحدث نوء عظيم يعلن غضب الله على العصيان هو الذي أرسل سمكة ضخمة بجوار السفينة تبتلع يونان لتهبه مبيتًا آمنًا لا موتًا، تكشف له عن رعاية الله به، يقول القديس چيروم: أظهر الرب غضبه حين كان يونان في السفينة، وأظهر فرحه حين دخل إلى الموت، معللًا ذلك بأنه يمثل السيد المسيح الذي أمات الموت بموته. حقًا لقد ظهر يونان كضحية للموت يبتلعه الجحيم، لكن لم يستطيع أن يحتمله في داخله أكثر من ثلاثة أيام وثلاث ليالِ بل قذفه من جوفه، ليقول النبي: أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ هوشع 13: 14

لقد أكد السيد المسيح ما حدث ليونان في جوف الحوت كرمز لما حدث مع السيد نفسه، بقوله: لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالِ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالِ.. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال. متى 12: 40

كيف بقى السيد المسيح في الأرض هذه المدة؟

أولًا: يرى القديس چيروم أن اليهود يحسبون الجزء من اليوم كيومٍ كامل، فتُحسب مدة الموت للسيد المسيح من الجمعة حتى الأحد، وإن كان قد مات في نهاية الجمعة وقام في فجر الأحد. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لو بقى السيد حتى نهاية يوم الأحد لكان الجند قد تركوا القبر وصدق اليهود أن خبر القيامة من صنع التلاميذ. إفتعلوه بعد ترك الجند للموقع، لذا قام والجند يحرسون القبر

ثانيًا: يُقدم القديس چيروم رأيًا كان له من ينادي به هو اعتبار ساعات الظلمة على الصليب ليلًا جديدًا فريدًا من نوعه

ثالثًا: يُحسب البعض مدة الدفن منذ اللحظة التي سلم فيها السيد جسده المبذول في أحشاء تلاميذه في العشاء الأخير، كمن هو مدفون في الأرض البشرية ليقيمها معه سماءً له بقيامته في فجر الأحد

على أي الأحوال لقد دفن السيد ثلاثة أيام وقام، هذه هي الحقيقة التي شهدها التلاميذ وأكدها الرب ببراهين كثيرة لنعيشها كسرّ قيامتنا اليومية وغلبتنا على الموت والجحيم

هذا وقد استخدم يونان بدخوله إلى الموت وخروجه كدليل حيّ على قيامة الجسد في اليوم الأخير


الإصحاح الأول من سفر يونان

وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً

قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي

فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، فَنَزَلَ إِلَى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ، فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنَزَلَ فِيهَا، لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ

فَأَرْسَلَ الرَّبُّ رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ

فَخَافَ الْمَلاَّحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلهِهِ، وَطَرَحُوا الأَمْتِعَةَ الَّتِي فِي السَّفِينَةِ إِلَى الْبَحْرِ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُمْ. وَأَمَّا يُونَانُ فَكَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَى جَوْفِ السَّفِينَةِ وَاضْطَجَعَ وَنَامَ نَوْمًا ثَقِيلاً

فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ. فَأَلْقَوا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ

فَقَالُوا لَهُ: أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟ مَا هُوَ عَمَلُكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ مَا هِيَ أَرْضُكَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟

فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا عِبْرَانِيٌّ، وَأَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ

فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا لَهُ: لِمَاذَا فَعَلْتَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ

فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟ لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا

فَقَالَ لَهُمْ: خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ

وَلكِنَّ الرِّجَالَ جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ

فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ وَقَالُوا: آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا، لأَنَّكَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْتَ

ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ

فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُورًا

وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتًا عَظِيمًا لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال

يونان 1


تفسير سفر يونان - يونان 1 - الاصحاح الأول -  تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب ملطي - من تفسير و تأملات الآباء الأولون


يمكن الرجوع إلى

النبي الهارب والشعب التائب
 
http://orthodoxcoptic.blogspot.com/2012/10/blog-post_2.html

Share

Tuesday, October 2, 2012

النبي الهارب والشعب التائب


النبي الهارب والشعب التائب - للقديس كيرلس الكبير

لماذا أُرسِلَ يونان إلى شعب وثني

وصار قول الرب إلى يونان... قُمْ اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ فيها، لأنه قد صعد صراخ شرِّهم إليَّ. يون 1: 1 - 2 سبعينية. وَصَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ قَائِلاً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي. يونان 1: 1 - 2 ينبغي أن تُلاحظوا من خدمة ورسالة نبوَّة يونان مبدءاً هاماً بأسلوب الطوباوي بولس الذي قال: أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا لأَنَّ اللهَ وَاحِدٌ، هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ. رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 3: 29 - 30. وإذ نتعلَّم ذلك بالاختبار فإنَّ الرسول بطرس أيضاً يُعلن ذلك بقوله: بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ. أعمال الرسل 10: 34 - 35. فإنَّ الله هو الذي خلق الإنسان في البدء على صورته ليكون مُكرَّساً للفضيلة، لكي يعيش حياة قداسة مُباركة جديرة بالثناء، ولكي يتمتَّع بنصيبٍ وافرٍ من عطايا الله

ولكن البشر ضلُّوا في الخطية، إذ أغوتهم خداعات الشيطان، وبالتالي فقد أصبحوا ملعونين وخاضعين للفساد. وكان المسيح قد دبَّر - إذ عَلِمَ بذلك قبل تأسيس العالم - أن يُصحِّح كل شيء. لقد سُرَّ الله الآب أن يَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ. رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 1: 10

أَمَرَ الله يونان أن يذهب إلى نينوى التي كانت مدينة فارسية، وكانت كما قال إرميا النبي: أَرْضُ مَنْحُوتَاتٍ هِيَ. إرميا 50: 38. وكانت على حدود بلاد اليهود وقد استسلمت لعبادة الأصنام. فلماذا ترك الله المدن القريبة وأرسل يونان إلى تلك المدينة الوثنية التي كانت كما قال ناحوم النبي: الزَّانِيَةِ الْحَسَنَةِ الْجَمَالِ صَاحِبَةِ السِّحْرِ الْبَائِعَةِ أُمَمًا بِزِنَاهَا. ناحوم 3: 4! أرى أنَّ الله كان له قصد نافع في أن يُبرهن حتى للمتغرِّبين عنه أنه يمكنهم أن يُجتذَبوا، في الوقت المناسب، إلى معرفة الحق حتى ولو كانوا غارقين في عنادهم


قوة تأثير كلمة الله

وكما ترون، فإنَّ كلمة الله قادرة على حثِّ الناس أن يتعلَّموا ما يجعلهم حكماء. وكما قال الرب لإرميا النبي: هأَنَذَا جَاعِلٌ كَلاَمِي فِي فَمِكَ نَارًا، وَهذَا الشَّعْبَ حَطَبًا، فَتَأْكُلُهُمْ. إرميا 5: 14، وأيضاً: أَلَيْسَتْ هكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟ إرميا 23: 29. وهكذا فلم يكن بدون هدف أن يُرسَل يونان إلى أهل نينوى، بل إنَّ ذلك حدث لكي يكون كبشير لرأفة الله المتأصِّلة فيه، والتي يمكن أن تُمنَح حتى للشعب الذي ضلَّ بجهالته

وفي نفس الوقت، فقد كانت في هذا القول من فم إرميا النبي إدانة لشعب إسرائيل، لأنهم كانوا مُدانين بكونهم متمردين غير مستجيبين لناموس الله وغير مُبالين به. ومع ذلك فإنَّ أهل نينوى رجعوا فوراً إلى الشعور بالالتزام بالتوبة بإنذارٍ واحدٍ للنبي، رغم أنَّ هذا الشعب كان يعيش في خداع الوثنية؛ في حين أنَّ شعب إسرائيل استخفَّ بموسى والأنبياء، ثم قاوم المسيح مخلِّصنا، رغم أنه أيَّد تعاليمه بالمعجزات، حيث كان يجب أن يقتنعوا بسهولة أنه هو الله الذي صار إنساناً ليُخلِّص الجميع وهم قَبْل الجميع. ولذلك قال عنهم الرب: رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! متى 12: 41. وما هو الأمر الأعظم في المسيح من يونان؟ ففي حين أنَّ الرب هدَّد أهل نينوى بأن تنقلب مدينتهم، فإنَّ الرب يسوع أدهش اليهود بعجائبه التي تفوق الوصف، والمعجزة التي ترافق الرسالة هي دائماً وسيلة لتوصيل الناس إلى الإيمان


لماذا هرب يونان؟ ولماذا إلى ترشيش؟

هرب يونان إلى ترشيش من وجه الرب. (وترشيش هي التي تُدعَى في أيام القديس كيرلس تارسي في كيليكية. كما يُرجِّح البعض أنها هي طرسوس موطن شاول الطرسوسي - بولس الرسول). ولكن لماذا هرب إلى ترشيش؟ ربما لأنه كانت لديه فكرة أنَّ قوة الله كانت قاصرة على أرض إسرائيل، ولذلك فقد غادر اليهودية إلى إحدى المدن اليونانية

ويمكننا أن نتعرَّف على نفور يونان من تلك الإرسالية وعدم تحمُّسه لها من خوفه من عدم تحقيق الله لإنذاره بمعاقبة أهل نينوى، وذلك من كلامه هو إذ قال: آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 2 - 3

ولكن الرب أرسل ريحاً شديدة على البحر حتى صارت السفينة في خطر، وارتعب الملاَّحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه، وطرحوا الأمتعة في البحر لتخفَّ الحمولة عن السفينة. أمَّا يونان فقد نزل إلى جوف السفينة ونام نوماً ثقيلاً. فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيَّةِ وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ. يونان 1: 6. وإن كان يبدو أنه نام هكذا قبل هبوب العاصفة، إلاَّ أنَّ ذلك دلَّ على عدم مبالاته بإرساليته، وأنَّ اهتمامه انحصر في ذاته، ولكنه لم يتجاهل واجبه


اعتراف يونان بخطيئته

ولما ألقى الملاَّحون قرعتهم لمعرفة بسبب مَن هذه البلية... وقعت القرعة على يونان، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْبَلِيَّةُ. فَأَلْقَوا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. يونان 1: 7. وكان ذلك جزءاً من خطة الله، إذ اكتشفوا الشخص الذي ظنَّ أنه يمكنه أن يهرب من حضرة الله. ولما سألوه عن أمره، اعترف أنه هاربٌ من وجه الرب. فسألوه عمَّا يفعلونه به ليسكن البحر الذي كان يزداد اضطراباً، فاعترف بخطيئته فَقَالَ لَهُمْ: خُذُونِي وَاطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ. يونان 1: 12. ولكنهم جَذَفُوا لِيُرَجِّعُوا السَّفِينَةَ إِلَى الْبَرِّ. يونان 1: 13، لأنهم أرادوا أن ينقذوا خادم الله ويأتوا به سالماً إلى الشاطئ، ولكنهم لَمْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ اضْطِرَابًا عَلَيْهِمْ. يونان 1: 13. ثم «صرخوا إلى الرب وقالوا: آهِ يَا رَبُّ، لاَ نَهْلِكْ مِنْ أَجْلِ نَفْسِ هذَا الرَّجُلِ، وَلاَ تَجْعَلْ عَلَيْنَا دَمًا بَرِيئًا، لأَنَّكَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ كَمَا شِئْتَ. ثُمَّ أَخَذُوا يُونَانَ وَطَرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَقَفَ الْبَحْرُ عَنْ هَيَجَانِهِ. يونان 1: 14 - 15

ولماذا سألوه عن موطنه الأصلي؟ لأنهم أرادوا، حسب رأيي، أن يعرفوا مَن هو الإله الذي أغضبه. فلما قال لهم إنه عبراني وإنه خائفٌ من إله السماء، تحقَّقوا من أنه هرب من وجه الله، لماذا؟ ذلك لأنَّ اليهود غير مسموح لهم أن يتركوا بلادهم المُخصَّصة لهم ويدخلوا مدناً وثنية... ولما هدأ البحر بمجرد أن طرحوا يونان فيه، يقول الكتاب: فَخَافَ الرِّجَالُ مِنَ الرَّبِّ خَوْفًا عَظِيمًا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ وَنَذَرُوا نُذُورًا. يونان 1: 16. وهكذا انتفعوا من هذا الحدث بكونهم آمنوا أنه يوجد في الكون إله واحد وقدَّموا له ذبيحتهم


كيف عاش يونان

في جوف الحوت ثلاثة أيام؟

وَأَمَّا الرَّبُّ فَأَعَدَّ حُوتًا عَظِيمًا لِيَبْتَلِعَ يُونَانَ. يونان 1: 17. ونحن لا ندَّعي أنَّ الله يأمر الحيوانات كما يفعل معنا أو مع الملائكة. فإذا قيل إنه يأمر الحيوانات أو العناصر، فهذا يُشير إلى مشيئته كقانون وأمر، فنحن نرى أنَّ كل شيء يخضع لإرادته. وبالتالي فإنَّ إرادته الصالحة التي جعلت الحوت يبتلع يونان لم تُسبِّب ضرراً للنبي، حيث إنه ظلَّ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال. يونان 1: 17

هذه الحقيقة ربما بَدَت غير مُقنعة للبعض حتى أنهم لا يُصدِّقون أنه مكث حيّاً ثلاثة أيام في جوف الحوت، وكيف أن جسده لم يتحطَّم عند ابتلاعه؟ وكيف أمكنه أن يتحمل حرارة جسم الحوت ورطوبة أحشائه الشديدة؟ وكيف أنَّ الحوت لم يهضمه كبقية الأطعمة؟ ونجيب على ذلك بأنَّ القوة الإلهية يمكنها أن تُغيِّر طبيعة الكائنات الحية بسهولة إلى أيَّة حالة يختارها الله. ونحن نعلم أن الجنين في رَحِم أُمِّه يكون غاطساً في رطوبة طبيعية وكأنه مدفون في أحشاء أُمِّه، ولا يمكنه أن يتنفس، ولكنه يظل حيّاً ويتغذَّى بطريقة دبَّرها الله. إن تدابير الله لا يمكن أن يُدركها أحد بسهولة

وإذا اتخذنا يونان النبي كنموذج للخدمة التي تُدرَك في المسيح، فيمكن القول إنَّ العالم كله، منذ آدم، كان مُعرَّضاً للخطر، وإنَّ الجنس البشري كان متأثِّراً بعواصف وأمواج الخطية الهائجة، والمسرَّات الكئيبة التي لا تُطاق كانت تغمر البشر؛ إذ كان الجنس البشري مُهدَّداً بالفساد وتضربه رياح عنيفة، أي الشيطان وقُوَى الشر الخاضعة له والتي تعمل معه. فأشفق علينا الخالق وأرسل ابنه لكي يُهدِّئ العاصفة، وهكذا خلَّصنا بموت المسيح. وإذ هدأت العاصفة واستقرَّت الأمواج ساد السلام وتمتَّعنا بجوٍّ روحي صافٍ منذ أن تألَّم المسيح من أجلنا. وذلك كما أنَّ رُسل المسيح عندما صدمتهم الرياح العاتية والأمواج، أيقظوا الرب يسوع لكي ينقذهم؛ فقام وانتهر البحر وأنقذهم. وهكذا حدث مع الجنس البشري، فإننا بالمسيح قد تحرَّرنا من الموت والفساد والخطية والأهواء البشرية، وامتلأت حياتنا بالسلام


دَعَوْتُ مِنْ ضِيقِي الرَّبَّ، فَاسْتَجَابَنِي. يونان 2: 2

عاش يونان في جوف الحوت كمنزل له، ودون أن يشعر بأيِّ نوع من المؤثِّرات الرديئة على الجسد أو الذهن، شعر بمعونة إلهية إذ عَلِمَ أن الله خيِّر. ومن الناحية الأخرى، فإذ لم يكن على دراية بأن ما حدث كان نتيجةً لنفوره من خدمته؛ فقد اتجه إلى الصلاة ناطقاً بمشاعر الشكر معترفاً بمجد الله مخلِّصه. وقوله إنَّ الرب استجاب له فقد تحقَّق من ذلك مُسْبقاً، في رأيي، بروحٍ نبوية. وقوله: صَرَخْتُ مِنْ جَوْفِ الْهَاوِيَةِ. يونان 2: 2 الذي كان يقصد به معدة الحوت، فقد قارَن هذا الوحش بالجحيم والموت، إذ عرف كيف يقتل ضحيته ويلتهمها بوحشية

طَرَحْتَنِي فِي الْعُمْقِ فِي قَلْبِ الْبِحَارِ، فَأَحَاطَ بِي نَهْرٌ. جَازَتْ فَوْقِي جَمِيعُ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. يونان 2: 3 - 4. إنه يُرجِع هذا الحدث إلى نعمةٍ من فوق، وينسب إلى الأحكام الإلهية إمكانية الإنقاذ بسهولة من كل ضيقة. ويقول إنه كان في عمق البحر وفي صخب المياه التي تجيش وتُغرقه كأمواج غامرة، وقد أدرك في تلك المحنة أنه كان يُعاني من الغضب الإلهي، وأنه قد صار يائساً من إنقاذه، وهذا شعورٌ مُرعب. ثم قال: هل حقّاً لن أعود وأنظر إلى هيكل قدسك؟ يون 2: 4 سبعينية... وَلكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ. يونان 2: 4. لقد كان على درايةٍ أنه قد حُفظ بقوة الله الذي أعانه على الحياة في جوف الوحش مما يفوق التصديق. وربما كان يشكُّ إن كان الوحش سيقذف به إلى ضوء النهار مرة أخرى. ومن الناحية الأخرى، فقد اعتبر أنَّ رجوعه إلى هيكل الله لكي يُمجِّد ذاك الذي أنقذه أمراً شهياً ويحتاج إلى صلاة لكي يحصل على تلك النعمة

قَدِ اكْتَنَفَتْنِي مِيَاهٌ إِلَى النَّفْسِ. أَحَاطَ بِي غَمْرٌ. الْتَفَّ عُشْبُ الْبَحْرِ (أو الحلفاء) بِرَأْسِي. نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ الْجِبَالِ (هبطت رأسي إلى شقوق الجبال - سبعينية). مَغَالِيقُ الأَرْضِ عَلَيَّ إِلَى الأَبَدِ (هبطتُ إلى عمق الأرض التي قضبانها هي المغاليق الأبدية - سبعينية). ثُمَّ أَصْعَدْتَ مِنَ الْوَهْدَةِ حَيَاتِي أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي (لكنك أيها الرب إلهي سترفع حياتي من الهاوية - حسب الترجمة العربية المشتركة؛ أو دَع حياتي المُحطَّمة تتجدَّد - سبعينية). يونان 2: 5 - 6

إذ شعر يونان أنَّ الرب أنقذه حتى الآن، فكان ينوي أن يُقدِّم له أروع أناشيد الشكر. وحسب رأيي، فإنَّ كلمة المغاليق أو القضبان تعني أنها غير قابلة للكسر فلا يتغلَّب عليها أحد. وكونه لم يَمُت ولم يتألم من أيِّ شيء يتعلَّق بالموت أو الفساد، فقد ترجَّى، بشعوره النبوي، أن يُنقذه الله بإخراجه من جوف الحوت كما من الهاوية. ثم قال: حِينَ أَعْيَتْ فِيَّ نَفْسِي ذَكَرْتُ الرَّبَّ، فَجَاءَتْ إِلَيْكَ صَلاَتِي إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ (أو لعل صلاتي تأتي إليك إلى هيكلك المقدس - سبعينية). يونان 2: 7

إنَّ الضيقات ليست بلا منفعة للذين يُجرَّبون بها، ولذلك قال بولس الرسول: الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي. رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 5: 3 - 5. فلما تعرَّضت حياة يونان للخطر وبلغت ضيقته إلى أقصاها، التجأ إلى شيء نافع له وليس مثل الذين يُفسِحون المجال لليأس؛ بل ذَكَر ذاك الذي يُنقذ. فصرخ إليه عالياً، إذ كان على درايةٍ بقدرته

اَلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً يَتْرُكُونَ نِعْمَتَهُمْ. أَمَّا أَنَا فَبِصَوْتِ الْحَمْدِ (والاعتراف) أَذْبَحُ لَكَ، وَأُوفِي بِمَا نَذَرْتُهُ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ (أوفي بما نذرته لك أيها الرب خلاصي - سبعينية). يونان 2: 8 - 9. أي أنَّ الذين يُقدِّمون ولاءهم للآلهة الكاذبة ينبذون الرحمة التي كان ينبغي أن يطلبوها من الرب. أما أنا فأعلم أنك طيِّبٌ ورؤوف، ولذلك فإنني أعترف لك وأُقدِّم لك تسابيح مثل بخور عَطِر، أي ذبائح شُكر روحية. وأوفي لك نذور خلاصي بكل غيرة، أي تلك التي سبَّبت إنقاذي وكانت نافعة لحياتي. وهذا كان استجابةً للخدمة النبوية التي يريدها الله حيث زال كل نفور وجُبن. ولعل ذلك كان رمزاً للمسيح الذي في ضيقه قال للآب: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ. متى 26: 39. وهنا نتذكَّر قول الرسول بطرس مُستشهِداً بما قاله داود النبي: لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا. أعمال الرسل 2: 27. وهكذا فإنَّ جسد يونان أيضاً لم يَرَ فساداً، وبعد ثلاثة أيام رجع إلى الحياة؛ تماماً كما أنه كان يستحيل أن يخضع الرب، الذي هو الحياة بطبيعته، لقيود الموت

وَأَمَرَ الرَّبُّ الْحُوتَ فَقَذَفَ يُونَانَ إِلَى الْبَرِّ. يونان 2: 10. وهكذا تلقَّى الحوت الأمر مرةً أخرى بقوة إلهية لا توصف لتنفيذ إرادة الله، فحرَّر من أحشائه النبي الذي انتفع من المحنة، أو بالحري تشجَّع بتلك الخبرة واكتسب معرفةً صافيةً بأنه من المخاطرة أن يُقاوِم الأحكام الإلهية



مناداة يونان في نينوى

ثم صار قول الرب إلى يونان ثانيةً قائلاً: قُمْ اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وعِظْها بالرسالة التي أخبرتُك عنها من قبل. يون 3: 1 - 2 سبعينية. ثُمَّ صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ ثَانِيَةً قَائِلاً: قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ، وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا. يونان 3: 1 - 2

انتهز الله فرصة حماس يونان وأَمَرَه أن يذهب إلى نينوى مرةً أخرى بنفس الرسالة. وقد شابه يونان المسيح الذي مكث في باطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، إذ ذهب إلى أعماق قلب البحر، وكأنه نزل إلى أسافل الجبال، وهبط إلى مغاليق الأرض التي أغلقت عليه قضبانها بإحكام

ولكن المسيح سَلَبَ الجحيم وبشَّر الأرواح الموجودة هناك، وفَتَحَ الأبواب الموصدة، وعاد إلى الحياة مرةً أخرى إذ تحررت حياته من الفساد، وظهر بحالته هذه لأولئك النسوة اللائي كُنَّ يبحثن عنه ثم للرسل

ثم إنَّ رسالة الرب وصلت أخيراً أيضاً إلى الأمميين بواسطة الرسل المباركين. ومع أنه كان قد قال للرسل: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. متى 10: 5 - 6؛ إلاَّ أنه جعلهم يبشِّرون أخيراً برسالته التي جاء من أجلها للجميع. وكانت وصايا إنجيله واحدة لكلٍّ من إسرائيل والأُمم الذين نحن منهم والذين دُعينا إلى القداسة بواسطة الإيمان

فَقَامَ يُونَانُ وَذَهَبَ إِلَى نِينَوَى بِحَسَبِ قَوْلِ الرَّبِّ. أَمَّا نِينَوَى فَكَانَتْ مَدِينَةً عَظِيمَةً للهِ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. فَابْتَدَأَ يُونَانُ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَنَادَى وَقَالَ: بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى. يونان 3: 3 - 4 ونادَى وقال: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى (يون 3: 3 ، 4 سبعينية). لقد مُنح النبي غيرةً لا تُقاوَم، وانطلق إلى مهمته بنشاط ودخل تلك المدينة الأجنبية لكي يوفي الأحكام الإلهية

ورغم أنها كانت مدينة كبيرة ممتدة حتى أنها تتطلَّب مسيرة ثلاثة أيام؛ ولكنه عَبَرَها في يوم واحد، بقوة إلهية طبعاً، وأعلن الرسالة الإلهية. لقد أثار دهشتهم إذ أنه رجل عبراني آتٍ من بلاد أجنبية غير معروفة لأحد هناك، وقد سار وسط المدينة وهو يصيح بصوتٍ عالٍ: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى (يون 3: 3 ، 4 سبعينية). يونان 3: 3 - 4

وقد تكلَّم النبي ليس من ذاته بل من فم الرب. والأنبياء غالباً لا يذكرون كل ما قاله الله لهم ولا كل الكلام الذي قالوه هم لله. ونحن نستنتج ذلك من قوله لله: آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 2 - 3


استجابة أهل نينوى بالإيمان والتوبة

فَآمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِاللهِ وَنَادَوْا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحًا مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ. يونان 3: 5. آمن هذا الشعب بالله، هذا الذي كان مُداناً بسبب كل خطاياه المتأصِّلة فيه وأصنامه التي بلا عدد، وممارساته الشعبية المُخجلة. ومع ذلك فقد آمنوا بالله من كبيرهم إلى صغيرهم، الشهير والحقير، الغَني والفقير، الجميع شعروا بنفس الغيرة في قبول كلام النبي، وقد استجابوا لدعوته بدون تردُّد لإصلاح أنفسهم، وخضعوا للإنذار الإلهي الذي دعاهم للتوبة رغم أنه جاء من أجنبي وحيد لا يعرفونه. في حين أنَّ إسرائيل بغبائه لم يُطِع الناموس وسخر من الوصايا الموسوية ولم يستوعب كلام الأنبياء؛ بل إنهم صاروا قاتلين للرب، ولم يؤمنوا بالمُخلِّص

وهذا هو ما قاله الله لحزقيال النبي: اذْهَبِ امْضِ إِلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَكَلِّمْهُمْ بِكَلاَمِي. لأَنَّكَ غَيْرُ مُرْسَل إِلَى شَعْبٍ غَامِضِ اللُّغَةِ وَثَقِيلِ اللِّسَانِ، بَلْ إِلَى بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. لاَ إِلَى شُعُوبٍ كَثِيرَةٍ غَامِضَةِ اللُّغَةِ وَثَقِيلَةِ اللِّسَانِ لَسْتَ تَفْهَمُ كَلاَمَهُمْ. فَلَوْ أَرْسَلْتُكَ إِلَى هؤُلاَءِ لَسَمِعُوا لَكَ. لكِنَّ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَسْمَعَ لَكَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَشَاؤُونَ أَنْ يَسْمَعُوا لِي. لأَنَّ كُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ صِلاَبُ الْجِبَاهِ وَقُسَاةُ الْقُلُوبِ. حزقيال 3: 4 - 7

وَبَلَغَ الأَمْرُ مَلِكَ نِينَوَى، فَقَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ عَنْهُ، وَتَغَطَّى بِمِسْحٍ وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ. وَنُودِيَ وَقِيلَ فِي نِينَوَى عَنْ أَمْرِ الْمَلِكِ وَعُظَمَائِهِ قَائِلاً: لاَ تَذُقِ النَّاسُ وَلاَ الْبَهَائِمُ وَلاَ الْبَقَرُ وَلاَ الْغَنَمُ شَيْئًا. لاَ تَرْعَ وَلاَ تَشْرَبْ مَاءً. وَلْيَتَغَطَّ بِمُسُوحٍ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ، وَيَصْرُخُوا إِلَى اللهِ بِشِدَّةٍ، وَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ وَعَنِ الظُّلْمِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، لَعَلَّ اللهَ يَعُودُ وَيَنْدَمُ وَيَرْجعُ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ فَلاَ نَهْلِكَ. يونان 3: 6 - 9. لقد أظهر مديحه لاستجابتهم بتفاصيل كاملة، وأُعجب جداً باستعدادهم للتوبة. وحتى ملكهم ترك عرشه ورداءه الملكي وتغطَّى بالمسوح رداء النوح. وإذ جلس على الرماد، أعطى مثالاً لغيره لكي يُمسِكوا عن الطعام ويُصلُّوا بلا انقطاع متوسِّلين إلى الله لأجل الرحمة

لقد كان أهل نينوى حكماء، إذ كرَّسوا أنفسهم للإقلاع عن الفساد بواسطة الصوم الذي هو العمل الأصيل الوحيد للتوبة. أمَّا شعب إسرائيل فلم يهتموا بذلك بل أنهم أحياناً كانوا يُقدِّمون صوماً يُعتبر دنساً كما قال إشعياء النبي: هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُونَ. هَا إِنَّكُمْ لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ تَصُومُونَ، وَلِتَضْرِبُوا بِلَكْمَةِ الشَّرِّ. لَسْتُمْ تَصُومُونَ كَمَا الْيَوْمَ لِتَسْمِيعِ صَوْتِكُمْ فِي الْعَلاَءِ. أَمِثْلُ هذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْمًا يُذَلِّلُ الإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ. إشعياء 58: 3 - 5

أما أهل نينوى، فقد آمنوا بالله وقدَّموا صوماً نقياً بلا لوم، إذ اعتقدوا أنه لَعَلَّ اللهَ يَعُودُ وَيَنْدَمُ وَيَرْجعُ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ. يونان 3: 9 بسبب صلاحه وطيبة قلبه. ومن الناحية الأخرى فهو يُعاقب الخطاة والذين يتورطون في القساوة بعناد، إذ يفرض غضبه كنوع من اللجام لكي يُعنِّفهم ويأتي بهم إلى الإذعان. أمَّا بخصوص صوم البهائم، فقد كان نوعاً من المغالاة، وليس من الضروري أن يكون قد حدث ذلك، ولكن الكتاب ذكر ذلك لكي يُوضِّح درجة توبتهم غير العادية! إنه ينسب المعاناة أيضاً للحيوانات


رجوع الله عن غضبه

فَلَمَّا رَأَى اللهُ أَعْمَالَهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئَةِ، نَدِمَ اللهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَصْنَعْهُ. يونان 3: 10. هكذا يُسرع الرب في إظهار رحمته وخلاصه للتائبين. وهو يُريحهم في الحال من جرائمهم السابقة إذا كفُّوا عن خطاياهم، وهو يرفع غضبه ويُبدِّله بمعاملة طيِّبة. وهو ما قاله الرب لحزقيال النبي: لِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟ لأَنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَارْجِعُوا وَاحْيَوْا. حزقيال 18: 31 - 32

فَغَمَّ ذلِكَ يُونَانَ غَمًّا شَدِيدًا، فَاغْتَاظَ. وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 1 - 3

فطالما أنَّ الله رؤوف على الذين يتفادون غضبه بالتوبة، وحتى لو مضى الوقت على إتمام ما كان مُقدَّراً لهم، وما تنبَّأ به عليهم النبي كان قد جاء وقت حدوثه؛ ومع ذلك فإنه لم يحدث، لذلك شعر يونان بغمٍّ شديد، وذلك ليس لأن انقلاب المدينة لم يحدث، ولكن لأنهم أخذوا عنه انطباعاً بأنه كاذبٌ مهذار. لقد أراد أن يتجنَّب ذلك فأقرَّ بأنه هرب إلى ترشيش، حتى لا يكون موقفه مهزوزاً لأنه اعترض على الله الذي يعلم كل شيء ويمكنه أن يُغيِّر فكر الإنسان، فهو شافي الأرواح الـذي يمكنه أن يُهدِّئ ضـراوة شهواتـنا بالمصاعب أحياناً وبأعمال رحمته أحياناً أخرى


اكتئاب يونان وتشجيع الله له

فَقَالَ الرَّبُّ: هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ (أو بالحقِّ)؟. وَخَرَجَ يُونَانُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَصَنَعَ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ مَظَلَّةً وَجَلَسَ تَحْتَهَا فِي الظِّلِّ، حَتَّى يَرَى مَاذَا يَحْدُثُ فِي الْمَدِينَةِ؟. يونان 4: 4 - 5. فلكي لا يجعل الله النبي فريسةً للاكتئاب، زوَّده بالحيوية في ضعفه، مؤنِّباً إيَّاه برقَّةٍ على هذا الاكتئاب وعلى فشله في إدراك الغرض من الأحكام الإلهية، إذ مـرت الأيام ولم يُنفِّذ الله تهديده لهم

لقد اعتقد أن الكارثة تأجَّلت بسبب أنهم قرَّروا أن يتوبوا، ولكن الغضب الإلهي سوف تظهر نتائجه إنْ لم يصنعوا أعمالاً تليق بالتوبة وتتناسب مع خطاياهم. ولذلك ترك النبي المدينة لكي ينتظر ما سيحدث لهم، وتوقَّع أن المدينة ربما تحترق مثل سدوم، ولكن خيمته في الواقع هي التي تحطَّمت

فَأَعَدَّ الرَّبُّ الإِلهُ يَقْطِينَةً (شجرة خروع) فَارْتَفَعَتْ فَوْقَ يُونَانَ لِتَكُونَ ظِلاُ عَلَى رَأْسِهِ، لِكَيْ يُخَلِّصَهُ مِنْ غَمِّهِ. فَفَرِحَ يُونَانُ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ فَرَحًا عَظِيمًا. يونان 4: 6. هكذا أعدَّ الرب اليقطينة لفائدة النبي، كما أعدَّ الحوت لكي يبتلعه. فكبرت اليقطينة سريعاً، ليس فقط لتُظلِّله من الحرِّ، بل الأهم هو لِكَيْ يُخَلِّصَهُ مِنْ غَمِّهِ. يونان 4: 6 فشعر يونان بالسعادة والميل إلى الاحتفاظ ببساطة الذهـن مثل الأطفال الذيـن تشغلهم الأشياء المُفرحـة عمَّا يُحزنهم

ثُمَّ أَعَدَّ اللهُ دُودَةً عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ في الْغَدِ، فَضَرَبَتِ الْيَقْطِينَةَ فَيَبِسَتْ. وَحَدَثَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَنَّ اللهَ أَعَدَّ رِيحًا شَرْقِيَّةً حَارَّةً، فَضَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِ يُونَانَ فَذَبُلَ. فَطَلَبَ لِنَفْسِهِ الْمَوْتَ، وَقَالَ: مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي. يونان 4: 7 - 8

والمقصود من الدودة عند الفجر هو الجراد لأنه يتخذ وجوده من ندى الصباح. وضَرَبَ الجراد اليقطينة بقسوة، فلما يبست وهبَّت الريح الحارة حُرِمَ النبي من الظل فتفاقم سُخطه حتى اشتهى الموت


الله يوضِّح الهدف من القصة كلها

فَقَالَ اللهُ لِيُونَانَ: هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ (أو بالحقِّ) مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ؟ فَقَالَ: اغْتَظْتُ بِالصَّوَابِ حَتَّى الْمَوْتِ. يونان 4: 9. لاحِظ مرةً أخرى إله الجميع في معاملته الرقيقة وحبه للنفوس البريئة، وأنه لا يُقصِّر بأيِّ حال عن إبداء عاطفة الأُبوَّة. فلم يَعُد يونان يلوم رِقَّة الحب الإلهي عندما قرَّر أن يُشفق على أهل نينوى؛ بل اعترف بغيظه مِمَّا جعل الله يشرح له سبب تدبيره لتلك القصة كلها

فَقَالَ الرَّبُّ: أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟. يونان 4: 10 - 11

كيف يمكننا أن نفتح أفواهنا لنُقدِّم تسابيح الشكر لذاك المملوء بالرأفة والصلاح؟ إنَّ الرب يُبعد عنا معاصينا، فهو مثل أب يُبدي الرأفة على أبنائه، هكذا هو يتراءف على الذين يخافونه لأنه يعرف جبلتنا (انظر مز 103: 12 - 14). كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ. المزامير 103: 12 - 14

لاحِظ كيف يُظهِر الرب اكتئاب يونان في وقت غير مناسب رغم كونه ملتزماً أن يمدح الرب على صلاحه كنبي قديس. فإذا كان هو قد بلغ إلى اكتئابٍ فائق الحدِّ بسبب ذبول اليقطينة، أفلا يُشفق الرب على كل هذا الشعب الذي لا يعرف يمينه من شماله؟ كما أنه يُشير إلى شفقته على البهائم، لأنه إن كان الصِّدِّيق يُشفق على نفس بهيمته (أم 12: 10 سبعينية).. الصِّدِّيقُ يُرَاعِي نَفْسَ بَهِيمَتِهِ، أَمَّا مَرَاحِمُ الأَشْرَارِ فَقَاسِيَةٌ. الأمثال 12: 10، وهذا يُضاف إلى فضله، فلا غرابة أن يُشفق الرب على البهائم أيضاً

وهذه هي الطريقة التي خلَّص بها المسيح كل أحد، إذ بذل نفسه لأجل الصغير والكبير، الحكيم والجاهل، الغني والفقير، اليهودي واليوناني، والذي قيل عنه: النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يَا رَبُّ. مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اَللهُ! فَبَنُو الْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ. المزمور 36: 6 - 7، الذي له المجد والقوة مع الآب والروح القدس الصالح والمُحيي إلى الأبد، آمين


مجلة مرقس – رسالة الفكر المسيحي للشباب والخُدَّام – يصدرها دير القديس أنبا مقار – ببرية شيهيت – السنة 56 – العدد 531 – فبراير 2012م – طوبة / أمشير 1728ش
مجلة مرقس – رسالة الفكر المسيحي للشباب والخُدَّام – يصدرها دير القديس أنبا مقار – ببرية شيهيت – السنة 56 – العدد 532 – مارس 2012م – أمشير / برمهات 1728ش


http://www.stmacariusmonastery.org/
http://www.stmacariusmonastery.org/st_mark/sm021204.htm
http://www.stmacariusmonastery.org/st_mark/sm031204.htm

 

Share

Facebook Comments

Twitter

I Read

Word of the Day

Quote of the Day

Article of the Day

This Day in History

Today's Birthday

In the News