بقلم: البابا شنودة الثالث
إذا أردت أن تتوب, أو تكون أمينا في علاقتك مع الله, فعليك بين الحين والحين ان تجلس إلي نفسك فلماذا؟
فأنت إما أنك لاتشعر بما أنت فيه من خطر. لاتعرف حالتك بالضبط, ولاتدرك أخطاءك ولاعمقها وبشاعتها.. لأن دوامة المشغوليات والاهتمامات تجذبك إليها باستمرار، وأنت غارق فيها تماما.. ليس لديك وقت أن تفكر في نفسك وفي روحياتك. وربما لايخطر هذا الموضوع علي فكرك! إذن فأنت محتاج أن تجلس إلي نفسك وتفحصها وتراقبها, لكي تدرك مستوي ما أنت فيه من الروحيات أو مستوي بعدك عنه.
أو ربما إنك تعرف أخطاءك, أو تعرف البارز منها, ولكن ليس لديك وقت ولافرصة لكي تفكر كيف تترك تلك الأفكار, وكيف تعالجها. وقبل أن يدور بذهنك أن تعالج خطأ معينا تكون قد وقعت في غيره أو فيما أشد منه.. والأخطاء والخطايا تحيط بك من كل ناحية, وليست هناك فرصة للتخلص منها, إذن فأنت محتاج أيضا أن تجلس إلي نفسك لكي تعالج ما يحتاج فيها إلي معالجة.
وكما يحتاج المريض إلي كشف أشعة إلي وأجهزة تحاليل لكي يعرف مايدور في داخله بالضبط ونوعية ومدي خطورة أمراضه, وهو يحتاج أيضا أن يعرف العلاج وممارسته لكي يشفي وأن يتابع هذا العلاج مع طبيب حكيم خبير بالأمراض وعلاجها.. وهذا لايتأتي بالمريض إلا إذا انتزع نفسه من مشغولياته وذهب للكشف.. هكذا الجلسة مع النفس.
هذه الجلسة الروحية مع النفس هدفها تنقيتها, وذلك بأن يكتشف الشخص خطاياه وضعفاته, ويلوم نفسه عليها ثم يعرف أيضا أسباب سقوطه, سواء أكانت أسبابا خارجية تضغط عليه, أو أسبابا داخلية يسعي فيها هو نفسه إلي الخطية, أو هي طباع وعادات أو تأثرات بآخرين.. ويحاول في كل هذا أن يتحاشي مايبعده عن حياة التوبة والنقاوة ويعزم عزما قلبيا أكيدا علي أن يترك أخطاءه بكل رضا واقتناع داخلي.
والإنسان الروحي لايقصر جلسته مع نفسه علي بحث الماضي والندم عليه وتبكيت النفس علي أخطائها.. إنما عليه أيضا أن يفكر في مستقبله الروحي, ويضع كذلك خطة حكيمة من واقع حالته واختباراته.. ويصمم في أعماقه علي أن يسلك في ذلك بتدقيق شديد وبجدية والتزام.. وفي كل ذلك يطلب من الله نعمة وقوة لكي يسلك حسنا فيما بعد.
وإني انصح بهذه المناسبة, وأن الشخص الذي ينوي ان يحيا حياة بارة في المستقبل, لا ينفعه ان ينتهز هذا الشعور فيقدم الله تعهدات ونذور أنه سيفعل كذا وكذا! كما لو كان له ثقة أو غرور بقدرته الشخصية الذاتية, حتي إن البعض يقول في جلسته هذه افعل بي يارب ماتشاء من الويلات إن رجعت إلي هذه الخطية مرة أخري! فما أكثر من وعد الله وعودا, ولم ينفذ, ثم عاد يقول في حزن:
كما وعدت الله وعدا حانثا
ليتني من خوف ضعفي لم أعد
إنما الأمر لايعد ان يكون مجرد رغبات مقدسة, تعرض فيها إرادتك وعزمك علي اللهو ليعطيك قوة علي التنفيذ, لأنك بدون معونته لاتستطيع أن تفعل شيئا. وهكذا تندمج جلستك مع نفسك لتكون جلسة صلاة تطلب فيها القوة.
ولاشك أن الشيطان يقاوم بكل قوته جلوسك مع نفسك, لأنه يخشي أن تفلت من سيطرته عن طريقه. أما أنه يخشي في جلوسك مع نفسك, أن تدرك سوء حالتك الروحية فتفكر جديا في التوبة, وبهذا تفلت من يده.. وإما أنه يخشي في جلوسك مع نفسك, أن تطلب معونة من الله, وأن تنال منه قوة روحية لايقوي الشيطان علي مقاومتها.. والشيطان جرب كيف أن كثيرين جلسوا إلي أنفسهم فتابوا.. مثال ذلك القديس أوغسطينوس الذي لم يستطع أن يتوب وهو في دوامة المشغوليات, ودوامة الاصحاب, ودوامة الفلسفة والفكر.. لكنه لما جلس إلي نفسه تلك الجلسة الروحية العميقة, استطاع أن يصل إلي الإيمان وإلي التوبة وأن يرجع الي الله ويفلت الي الأبد من قبضة الشيطان ولم تكن مجرد جلسة عادية إنما هي جلسة مصيرية.
لذلك فالشيطان يقاوم جلوس الإنسان مع نفسه وذلك بأمرين: أما أن يمنع جلوس الإنسان مع نفسه, بأن يقدم له عشرات من المشغوليات ومئات من الأفكار, ويذكره بأمور تبدو أمامه مهمة جدا, ويجب ان يتفرغ لها, وكل ذلك لكي يعود إلي دوامته مرة أخري مثال ذلك إذا انتهزت فرصة بداية عام جديد من حياتك لتجلس مع نفسك يمكن للشيطان أن يعمل علي شغل هذه المناسبة بالحفلات والمجاملات حتي تنشغل بذلك ولاتخلو للتفكير بنفسك.
ولكنك إذا أصررت علي الجلوس إلي نفسك وفحص تصرفاتك وحياتك, ووجدت فرصة لذلك وابتعدت عن المشغوليات ولو إلي حين, حينئذ تكون خطة الشيطان أن يجلس معك أثناء جلوسك مع نفسك فهو لاييأس أبدا, وفي اشتراكه معك في جلستك الروحية, يقدم لك أفكارا وأحاسيس من عنده بأن يمنعك من تبكيت نفسك علي أخطائها.. ويخفف من مشاعر ندمك, فإن تذكرت أية خطية فبدلا من أن ينسحق قلبك بسببها وتوبخ ذاتك يقدم لك الشيطان عنها اعذارا وتبريرات, بمحاولة لتدليل النفس ومجاملاتها, أو تخفيف المسئولية عنها بالقائها مثلا علي الوسط الخارجي أو الآخرين.. وكل ذلك لاينفعك روحيا, ولا يقودك إلي التوبة, إن لومك لغيرك لا يبررك حتي لو كان ذلك الغير ملوما فعلا. لهذا يجب ان تركز علي مافعلته أنت لأنك مطالب به. وأنت لاتنال المغفرة بالتبريرات وإنما بالتوبة وإدانة النفس.
ولعل من حيل الشيطان أيضا ان يقلل لك من خطورة خطاياك, ولايجعلها تبدو علي حقيقتها في بشاعتها, كما لو كانت شيئا بسيطا لاتستحق أن تحزن بسببه وتندم وما أسهل أن يسمي لك الخطايا بغير أسمائها. أو يفلسف الخطية ويحاول أن يخفيها وراء سلامة القصد وحسن النية! وفي كل هذا يقودك إلي الاستهانة واللامبالاة ولايساعدك علي التوبة بل ربما يدفعك الي الاستمرار فيما أنت فيه. أما أنت فحينما تجلس مع نفسك حاسبها بكل حزم, وافحصها بدقة, واطمئن باستمرار علي نقاوتها.
مقال قداسة الانبا شنوده الثالث – بابا الاسكندرية 117 وبطريرك الكرازة المرقسية – في جريدة الأهرام – السنة 134 – العدد 45002 – يوم الأحد الموافق 21 فبراير (شباط) 2010 ميلادية، 14 أمشير 1726 شهداء (قبطية)، 7 ربيع أول 1431 هجرية (للهجرة) – الصفحة العاشرة (10)، قضايا وآراء
http://www.ahram.org.eg
No comments:
Post a Comment