Wednesday, April 15, 2009

البشاشة

البشاشة فضيلة اجتماعية مميزة‏.‏ فالإنسان البشوش يسعد الناس ببشاشته‏،‏ يشركهم معه في فرحه أو في سلامه وهم يستبشرون به‏،‏ إذ ينقلهم إلي نفس مشاعر البهجة التي له‏.‏

إنه يشيع السلام حوله‏.‏ ويبعث الطمأنينة في قلوب الآخرين‏.‏ وبشاشته تشع من نظرات عينيه‏،‏ ومن ابتسامته‏،‏ ومن ملامح وجهه‏، ومن أسلوب حديثه‏.‏ إنه نفس مستريحة من الداخل‏،‏ وقادرة علي إراحة الغير‏.‏ تشعر من حولها بأنه لايوجد ما يدعو إلي الكآبة‏،‏ بل هناك فرح علي الرغم من كل شيء‏.‏

الإنسان البشوش لا يسمح للمشاكل بأن تحصره داخلها‏.‏ و إنما يكسر دائراتها‏،‏ ويفتح له بابا ليخرج منها‏.‏

إنه لايعتمد علي عقله وحده‏،‏ وإنما علي الإيمان بالأكثر‏.‏ أي الإيمان بالله الذي يحب البشر‏،‏ ودائما يعمل معهم خيرا‏.‏ فإن كنا لانري هذا الخير‏،‏ فذلك قصور منا لا يمنع من وجود الخير أو من انتظار مجيئه‏.‏

الإنسان البشوش‏،‏ حتي إن حاربته الأحزان من كل جانب‏،‏ يقول لنفسه‏:‏ وما ذنب الناس في أن يروني عابس الوجه فيحزنوا؟‏!‏ لذلك فهو في نبل نفسه ‏-‏ إن أدركه الحزن ‏-‏ يحتفظ به لذاته وحده‏.‏ ويقدم بشاشته للآخرين‏.‏ فهو لا يشركهم في الحزن بل في الفرح‏..‏

الإنسان البشوش ينتصر علي المتاعب‏،‏ ولاتنتصر المتاعب عليه‏..‏ إنه لا يقع في الحصر النفسي‏، ولاتكون نفسه عدوة له في داخله‏.‏ وهنا يكون عقله صديقا له‏،‏ ودائما يريحه‏.‏ أما الكئيب‏،‏ فعقله يكون ألد أعدائه‏،‏ لأنه يصور له متاعب‏،‏ ربما لا وجود لها‏.‏ ودائما يضخم له ما يمكن أن تنتظره من مشاكل‏.‏ ويغلق أمامه أبواب الحلول‏..!‏ وإن إراد أن يخرج من بيته‏،‏ يقول له‏:‏ لاتنس المتاعب التي ستقابلك‏!‏

الإنسان البشوش حقا هو الذي يتمتع بالبشاشة الداخلية‏.‏ فهو ليس فقط بشوشا في مظهره‏،‏ من الخارج‏.‏ بل البشاشة تملك أعماق قلبه وفكره‏،‏ وتنبع من ذاخله‏.‏ فلا يحمل هما‏...‏ إذا أخطأ‏:‏ فبدلا من أن يفقد بشاشته‏، يعمل علي إصلاح الخطأ‏.‏ وحينئذ يعيش في سلام داخلي وفي سلام مع الله‏.‏ كثيرون إذا وقعوا في خطأ أو في مشكلة‏،‏ يكون الرد الطبيعي عندهم هو الكآبة‏.‏

ولكن الكآبة ليست حلا عمليا للمشاكل‏.‏ أما الشخص البشوش‏،‏ فإنه يبحث عن الحل العملي الذي يتخلص به من المشكلة وينقذه من الكآبة‏.‏ فإن وجد الحل‏، تزول المشكلة ويملكه الفرح‏.‏

أما الكئيب‏:‏ فإن المشكلة تستولي علي كيانه كله‏.‏ وبالأكثر عقله ومشاعره‏.‏ فيظل يفكر في المشكلة وأعماقها وأبعادها‏،‏ وكيف حدثت‏،‏ وما يتوقعه من نتائج سوداء لها‏..‏ فيزداد كآبة‏،‏ ولايفكر مطلقا في حل المشكلة وإن فكر في حل‏،‏ فإنه يستصعبه ويضع أمامه العقبات‏..‏ أو يتخيل أنه لا حل‏..!‏ وهنا تشمل الكآبة كل تفكيره‏.‏ فلا يبصر الحل وهو موجود‏!‏ وهكذا يستمر في كآبته‏،‏ بل تزداد تلك الكآبة‏.‏ ولايستطيع أن يكون بشوشا‏.‏

الإنسان البشوش إن لم يجد حلا لمشاكله‏،‏ يتركها إلي الله‏،‏ وينساها في يديه الإلهيتين‏.‏

أما الكئيب‏،‏ فلا يستطيع أن ينسي مشاكله‏.‏ إنها قائمة دائما أمام عينيه‏،‏ تتعبه وتزعجه‏.‏

وكلما فكر فيها‏،‏ ترهق أعصابه‏.‏ وربما يحتاج إلي طبيب نفسي‏،‏ يعطيه منوما أو مهدئا‏،‏ لكي تستريح أعصابه‏.‏ علي أن تلك المهدئات‏،‏ هي مجرد علاج من الخارج‏،‏ بينما الداخل في تعب‏...‏

البشوش لا يعطي للمتاعب وزنا فوق وزنها الطبيعي‏.‏ وكثير من الأمور يأخذها ببساطة‏،‏ فلا تتعقد أمامه‏.‏ وبطبيعة نفسه لايتضايق إلا من الأمور التي هي فوق الاحتمال‏..‏ وهو في العادة له قلب واسع لايتضايق لأي سبب‏، ولايفقد بشاشته‏.‏

إن الإنسان عموما قد يفقد بشاشته بسبب عدم الاكتفاء‏.‏ أي أنه لايكتفي بما عنده‏،‏ بل يتطلع باستمرار إلي طموحات عالية ربما لا تكون سهلة المنال‏.‏ فإن لم ينلها يكتئب‏.‏ ولهذا فالإنسان القنوع الراضي بما قسم الله له‏،‏ يكون دائما بشوشا شاكرا‏، إن الطامع في منصب كبير أو في مستوي عال‏،‏ إن لم تتحقق آماله‏،‏ فإنه يكتئب ويفقد بشاشته‏.‏ ومن العجيب أن كبار الأغنياء قد يفقدون بشاشتهم أيضا‏،‏ إن أرادوا نموا لثرواتهم ولم يتحقق ذلك‏.‏ وقد يتحقق لهم ما يريدون‏،‏ ومع ذلك يفقدون البشاشة إذ يجدون أمامهم ضرائب ومستحقات للدولة لا يحبون دفعها كلها‏.‏ وإن لجأوا إلي التهرب الضريبي تصدمهم قضايا وأحكام تفقدهم البشاشة أيضا‏!!‏

الإنسان البشوش يحب أن يكون جميع الناس بشوشين مثله‏.‏ فلذلك هو يحاول دائما أن ينسيهم أحزانهم‏،‏ ويشع فيهم الاطمئنان‏،‏ ويبحث عن حلول لمشاكلهم‏،‏ ويعطيهم تعليلا مريحا لكل الضيقات‏،‏ يجلب البهجة لهم مهما حدث‏..‏

إنه يخفف من قدر المتاعب‏،‏ ولايحسب لها ثقلا‏.‏ وفي كل مشكلة تحل لغيره‏،‏ يريحه بأن الرب الحنون المحب يقول‏:‏ تعالوا إلي يا جميع التعابي والثقيلي الأحمال‏،‏ وأنا أريحكم‏.‏

الإنسان البشوش لا يعيش في التعب الحاضر‏،‏ وإنما بالرجاء يعيش في الفرح المقبل يعيش سعيدا ولو في الخيال‏.‏ وله إيمان أن الله لابد سينقذه من تعبه‏.‏ إنه مؤمن بالمعونة الإلهية التي لايشك مطلقا في وصولها إليه‏.‏ إن لم يكن اليوم‏،‏ فغدا‏.‏

هناك مشكلة في موضوع البشاشة وهي أن البعض يخلط بين الجدية والعبوسة‏،‏ وبين الضحك والخطيئة‏.‏ وكأن الذي لا يكون عابسا‏،‏ فهو بالضرورة يكون عابثا‏!!‏ أو علي الأقل يكون ساهيا عن نفسه‏، أو غافلا عن الاهتمام بأبديته وناسيا لخطاياه‏.‏ ومن هنا نري أن بعض المتدينين أو رجال الدين يحرصون دائما أن يتصفوا بالجدية أو بالتزمت‏.‏ وهذا يقودهم إلي أن يكون كل منهم عابسا‏.‏ ويعتبرون المرح أو البشاشة حراما‏..!‏

وهذا التزمت له خطورته‏،‏ لأنهم يخيفون الناس من التدين‏.‏ أو هم يقدمون للناس صورة عن التدين غير سليمة‏.‏ ونقول‏:‏ لماذا لايكون الإنسان متدينا‏،‏ ومرحا وبشوشا في نفس الوقت؟

وهل معني التدين أن ينفصل الإنسان عن الحياة الاجتماعية وما فيها من مرح وبهجة؟

وهل إذا ضحك المتدين يبكته ضميره ؟ وماذا عن الحفلات التي تتميز بالمرح‏،‏ هل مستواها هابط؟ وماذا عن الطفل الذي يحب أن يضحك‏، ويحب من يضحكه؟ هل نعلمه التزمت؟‏!‏

مقال قداسة الانبا شنوده الثالث – بابا الاسكندرية 117 وبطريرك الكرازة المرقسية – في جريدة الأهرام – السنة 133 – العدد 44666 – يوم الأحد الموافق 22 مارس (آذار) 2009 ميلادية، 13 برمهات 1725 شهداء (قبطية)، 25 ربيع الاول 1430 هجرية (للهجرة) – الصفحة العاشرة (10)، قضايا وآراء،
http://www.ahram.org.eg

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏


Share/Save/Bookmark

No comments:

Post a Comment

Facebook Comments

Twitter

I Read

Word of the Day

Quote of the Day

Article of the Day

This Day in History

Today's Birthday

In the News