Saturday, April 25, 2009

لقاءات عجيبة في القيامة

بقلم : البابا شنودة الثالث
أهنئكم يا أخوتي وأبنائي بعيد القيامة‏،‏ راجيا فيه لبلادنا العزيزة سلاما وأمنا‏،‏ وراجيا للعالم كله قياما من سقطته المالية‏،‏ وكل آثارها المؤلمة في جميع الأقطار‏..‏

وبعد‏.‏ نحن قد تعودنا في كل عام أن نتحدث عن القيامة العامة‏،‏ وما تحوي من معان وأفكار وتأملات‏،‏ عارفين الأهمية العظمي لقيامة الأموات‏،‏ التي لولاها لتشابه البشر مع الحيوانات والحشرات والهوام‏،‏ تلك التي تنتهي حياتها بالموت وبعده الفناء‏....‏ أما البشر فيمتازون بأن لهم حياة أخري بعد الموت بدايتها القيامة التي يدخلون بها إلي الحياة الأبدية التي لا تنتهي‏.‏

ومن نعم القيامة أنها تفتح الباب للقاءات كثيرة وعجيبة ومجيدة‏،‏ ما كان ممكنا أن تحدث إطلاقا بدون القيامة‏..‏

أول هذه اللقاءات‏:‏ لقاء اثنين كانا متلازمين ومتزاملين طول العمر كله‏،‏ لا يفترقان لحظة واحدة‏،‏ بل إنهما كانا في وحدة عجيبة واندماج فوق الوصف‏....‏ وأعني بهذين الاثنين‏:‏ الروح والجسد في كل إنسان‏،‏ وفي الوحدة التي عاشاها‏، كانت مشاعرهما تندمج‏،‏ فإن فرحت الروح‏،‏ يبتسم الجسد أو يضحك ويتهلل‏،‏ وإن حزنت الروح‏،‏ فإن الجسد يكتئب أو يبكي‏،‏ وإن دخلت الروح في مجال الصلاة‏،‏ فإن الجسد يركع أو يسجد أو يقف في خشوع‏،‏ وما إلي ذلك من نواحي المشاركة في كل المشاعر والانفعالات التي يسمونها في عالم الطب سيكو سوماتيك حقا كل منهما للآخر شريك العمر‏.‏

هذان الصديقان المتلازمان افترقا بالموت‏،‏ فصعدت الروح إلي فوق‏،‏ ونزل الجسد إلي أسفل ودفن‏،‏ وبقيت الروح حية لم تمت‏،‏ أما الجسد فتحلل وتحول إلي تراب‏..‏ ومرت مئات أو آلاف السنين علي الافتراق الكامل بين الروح والجسد‏.‏

وأخيرا بالقيامة قام الجسد‏،‏ وارسل الله الروح لتتحد بالجسد وبلا شك أنها وجدته يختلف في بعض الأحوال عما كان من قبل‏،‏ لأن الله لا يقيم جسدا بعيوب كانت له‏،‏ فالأعمي لا يقوم أعمي‏،‏ بل يقوم ببصر جيد‏،‏ والأعرج والكسيح لا يقومان‏،‏ كما هما‏،‏ بل بأرجل سليمة‏،‏ وهكذا باقي المعاقين لا يقومون بأية إعاقة‏،‏ وأيضا المشوه والذي يمنحه الرب في القيامة جمالا‏.‏

والذين بترت اعضاء من جسهم في حوادث أو جراحات‏...‏ وركبت لهم أعضاء تعويضية‏، كل أولئك يقومون بأعضاء طبيعية سليمة‏..‏

هنا‏، يقف أمامنا سؤال هو‏:‏ كيف ستتعرف الروح علي جسدها لكيما تتحد به‏،‏ بعد تلك الغربة الطويلة والتغيرات الكثيرة؟ لاشك أن ذلك معجزة أخري‏!‏ هل هي ترجع إلي ذاكرة عجيبة للروح؟ أم أنها نعمة معرفة موهوبة لها؟‏!‏

المهم أن كل روح تتحد بجسدها ثم يقفان معا امام الله العادل في يوم الحساب الرهيب أو يوم الدينونة العامة‏،‏ لكي يقدما حسابا عن كل ما فعلاه خلال عمرهما الأرضي‏،‏ خيرا كان أم شرا مما اشتركا فيه معا‏،‏ وبعد صدور حكم الله عليهما‏،‏ يذهبان معا إلي مصيرهما الأبدي‏..‏

هذا هو اللقاء الأول في القيامة‏..‏ وماذا عن اللقاء الثاني؟ إنه لقاء الأحباء معا‏،‏ والأقارب والمعارف والأصدقاء‏...‏ منه لقاء الأسرة التي فقد لها حبيب بالموت‏،‏ ومرت علي ذلك سنوات لهم في الحزن والبكاء عليه‏،‏ ثم يكون اللقاء معه في القيامة العامة‏...‏ إنه لقاء الأرامل بالأزواج‏،‏ أو لقاء اليتامي بالآباء والأمهات‏...‏

وهنا أضع مثالا نادرا‏،‏ وهو رجل مات وقد ترك زوجته حبلي‏،‏ فولدت ابنا بعد موت ابيه‏،‏ لم ير أباه قط‏،‏ ولا يعرف شكله‏، هذا كيف سيتعرف علي أبيه في وقت القيامة؟‏!‏

مثال آخر وهو التعرف علي سلسلة الأنساب‏:‏ أي تعرف شخص علي جده وأبي جده‏،‏ وجد جده وجد جد جده‏،‏ إلي آخر السلسلة؟‏!‏ من سيقوم بتعريف الأسرة علي أصولها‏...‏؟‏!‏ ثم إذا كانت الأجساد ستقوم روحية غير مادية‏،‏ كما نعتقد ــ فكيف ستكون عملية التعرف أو التعريف؟

ثالث لقاء هو لقاء الناس عموما‏،‏ بعضهم بالبعض؟ علما بأن اللقاء في النعيم الأبدي سيكون فقط للأبرار مع الأبرار‏،‏ أما الخطاة فإنهم سيطرحون خارجا في الظلمة‏،‏ بعيدا عن نور الله ونور ملائكته وقديسيه‏...‏

وهنا تخطر لي بعض اسئلة منها‏:‏
أم بارة كان لها ابنان‏:‏ أحدهما بار ذهب إلي السماء‏،‏ ورأته معها‏،‏ والابن الآخر لم يستحق أن يدخل السماء‏،‏ فلم تره أمه‏،‏ ولن تراه‏...‏ ماذا يكون شعورها وعاطفتها نحوه‏، مع معرفتنا بأن مكان النعيم الأبدي قد هرب منه الحزن والكآبة والتنهد‏،‏ إنه مكان للفرح الكامل الدائم‏،‏ فهل تلك الأم التي فقدت أحد ابنيها في الأبدية‏،‏ سينعم الله عليها بنسيانه تماما‏،‏ وكأنه لم يولد؟ أم أن مشاعرها ستكون كلها مركزة في الله وفي البر والأبرار‏،‏ بحيث لا يخطر لها علي بال ذلك الابن؟‏!‏

مثال آخر‏:‏ إنسان بار مات قتيلا‏.‏ وكان قاتله قد ندم من كل قلبه علي القتل‏،‏ وتاب توبة حقيقية‏،‏ وقبل الله توبته وذهب إلي السماء‏،‏ والتقي القاتل والقتيل معا في دار النعيم‏،‏ كيف يكون شعورهما‏،‏ وفي الأبدية لا توجد مشاعر خاطئة إطلاقا‏،‏ يقينيا سيلتقيان بكل مودة وحب وفرح‏،‏ ولكن من أي نوع ستكون تلك المودة وذلك الفرح؟

النوع الرابع من اللقاء في العالم الآخر‏،‏ سيكون لقاء شعوب وأمم وأجناس‏،‏ من الأبرار من كل مكان‏،‏ من الجنس الآري إلي الجنس الزنجي‏،‏ وما بينهما من أجناس حسب تقسيم علم الأنثروبولوجي‏:‏ شعوب بيضاء وسوداء وصفراء بدرجاتها وأنواعها‏...‏ حشد كبير لا يحصي‏.‏

لا أدري كيف سيتعرفون علي بعضهم البعض؟ أم أن الله ــ تبارك اسمه ــ سوف يصنفهم صفوفا صفوفا‏،‏ وفرقا فرقا حسب درجات إيمانهم ودرجات روحانيتهم ودرجات معرفتهم‏،‏ والكل أبرار ومقبولون‏...‏ ولكن هل يمكن لقاء الكل بالكل؟ أم هذا غير ممكن؟ هنا يقف عقلي محتارا‏،‏ لا يعرف كيف يجيب‏،‏ وعلي رأي الشاعر ذو الحجي من قال إني لست أدري‏.‏

وهنا تحضرني قصة أخ أرسل إلي قديس شيخ متوحد‏،‏ في أيامه الأخيرة يقول له‏:‏ اسمح لي يا أبي أن أزورك الآن وأراك قبل أن تنطلق إلي مستواك العالي في الأبدية حيث لا يستطيع ضعيف مثلي أن يقترب‏،‏ فهل يعني هذا أن درجات الأبرار تكون في مستويات كل منها أعلي من الآخر‏،‏ وليست الخلطة متاحة للكل‏!‏ بل يرون من بعيد دون أن يندمجوا معهم ويعطلوا ما هم فيه من متعة روحية في الأبدية‏!‏

إن كان الأمر هكذا فكيف يتاح للأبرار اللقاء الخامس الذي هو اللقاء مع الملائكة‏،‏ وما هم فيه من درجات يعلو بعضها بعضا؟‏!‏ أم أن في الحياة الأخري عشرة مع الملائكة‏،‏ دون أن يعني هذا اندماجا شاملا؟ أم هناك اندماج لأن عدد الملائكة لا يحصي‏،‏ فيمكن لأعدادهم الوافرة أن تندمج بالبشر الأبرار‏،‏ وبدء ذلك الشهداء منهم والأنبياء والرسل وسائر القديسين الذين سيكون لقاء الأبرار بهم نوعا من اللقاءات في الأبدية‏...‏

أخيرا يخيل إلي انني تناولت موضوعات أعلي من مستوي فهمي البشري‏،‏ ويكفي أن نقول إنه ستكون لنا في الأبدية لقاءات عديدة تحدثنا عن أنواعها‏،‏ أما كنه تلك اللقاءات ونوعيتها‏،‏ فإنه من الأمور التي لم تعلن لنا‏،‏ ولا يسوغ لنا الخوض في أعماقها‏...‏

ختاما أرجو لكم كل خير‏،‏ وكل عام وأنتم في بركة ونعمة‏،‏ مصلين من أجل رئيس دولتنا المحبوب محمد حسني مبارك أن يمنحه الرب قوة خاصة تسنده في جهاده من أجل حفظ السلام في بلادنا وما يحيط بها‏.‏


مقال قداسة الانبا شنوده الثالث – بابا الاسكندرية 117 وبطريرك الكرازة المرقسية – في جريدة الأهرام – السنة 133 – العدد 44694 – يوم الأحد الموافق 19 ابريل (نيسان) 2009 ميلادية، 11 برموده 1725 شهداء (قبطية)، 23 ربيع الاخر 1430 هجرية (للهجرة) – الصفحة العاشرة (10)، قضايا وآراء،
http://www.ahram.org.eg


‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏


Share/Save/Bookmark

No comments:

Post a Comment

Facebook Comments

Twitter

I Read

Word of the Day

Quote of the Day

Article of the Day

This Day in History

Today's Birthday

In the News