هذا الصباح يوم الخميس من الأسبوع الأول في الصوم المقدس ويتكلَّم عن الحصاد في حياة الإنسان، ونحن في هذه الأيام المقدسة أيام الصوم وهى من أغلى أيام السنة وأكثرها أهمية في مسيرة الإنسان الروحية
والصوم المقدس معروف في كنيستنا سواء من ناحية التاريخ أو من ناحية الطقس، إنها فترة هامة جداً لكل إنسان، نقرأ فى سير الآباء كيف كانوا يتوحدون فى هذه الفترة ويقضون كل أيامها فى توبة، والحقيقة فترة الصوم تدور بين نقطتين مهمين جداً
نقطة الانقطاع
نقطة الاتضاع
الصوم يتميز بفترات الانقطاع الطويل نحن نصوم الصوم النباتي، وفي الصوم الكبير تكون فترات الانقطاع وتمتد وتكبر مع أسابيع الصوم ولكن الانقطاع في ذاته له معنى إن كان على مستوى الجسد فهو يُساعد الإنسان أن يُقوِّي إرادته، فالإنسان عندما يصنع أي خطية إنما يسقط فيها، إنما تكون بالإرادة أو بغير الإرادة، قد تكون بالمعرفة أو بغير المعرفة، فتأتي فترة الصوم وفترة الانقطاع لكي ما يُقوِّي الإنسان إرادته، وبالتالي يكون له الحرص الأكثر في حياته، ويكون إنسان دقيق في كل فعل يفعله، وكل قول يقوله، حتى وكل فكر يأتي إليه
نصوم الصوم النباتي لكي نتذكَّر أيام الفردوس، حيث كان آدم وحواء قبل الخطية. والطعام النباتي له طاقة هادئة يعطيها للإنسان، ويُعطي الإنسان شيء من الضبط، لأن كل مَن يُجاهد يضبط نفسه في كل شيء. والصوم زي ما فيه الطعام النباتي، فيه أيضاً عدم الانشغال بكثرة الأطعمة، لكن الصوم لا يدور فقط في دائرة الطعام ولكن الأهم هى دائرة الانقطاع، فليس الانقطاع عن الطعام فقط، ولكن الانقطاع أيضاً عن الخطية ومصادر الخطية وتوابعها. فترة الصوم هى فترة انقطاع بالحقيقة.. انقطاع عن كل شيء يُشوِّه حياته، أو يُشوِّه قلبه. فترة الانقطاع هى فترة جهادية في حياة الإنسان الروحي، فيها يُجاهد مع ذاته ضد أي خطية بأي صورة من صور الخطية
الصوم بأيامه كلها مبنية على فكرة الانقطاع.. الكنيسة تعمل قداسات متأخرة للتدقيق، والكنيسة تُعلِّمنا الانشغال بكلمة اللَّه وليس بكلام الناس. والكنيسة تُعلِّمنا فترات الاعتكاف والخُلوة. والكنيسة تُعلِّمنا النُّسكيات كمثل الميطانيات وهكذا
المهم السؤال في حياة الإنسان: هل تستفيد من هذا الانقطاع؟ الاستفادة من الانقطاع
فكرة الانقطاع في حياة الإنسان فكرة من أجل أن تكون حياته ليست أرضية بل سماوية، هو يحاول أن ينقطع ولو إلى قليل عن كل ما يربطه بالأرض إن كان طعاماً أو كلاماً أو حتى حركة، والهدف من وراء ذلك أن يسمو فى فِكْرِهِ، ويَسْمُو في علاقاته مع مسيحه ومع السماء. وفكرة الانقطاع فكرة مُهمة حتى إنها تعيش فى الكنيسة، فالإنسان عندما يُكرِّس نفسه إنما ينقطع عن العالم، عندما يُقرِّر أن تكون حياته من أجل المسيح ومن أجل الخدمة ومن أجل الكنيسة هي الحياة المنقطعة عن العالم. ففكرة الانقطاع ليست فقط في الصوم ولكنها فى كل حياة الإنسان وهي عمل لازم للحياة الروحية، وفي حياتنا بصفة عامة
ده أوَّل الموضوع لكن آخر الموضوع أن الانقطاع إن سار فيه الإنسان بأمانة وبإخلاص وبشمولية يستطيع أن يصل إلى شكل من أشكال الاتضاع
اتضاع الانسان يعني الإنسان الذي يستطيع أن يقف أمام ذاته، ويستطيع أن يقف أمام حرب الذات، والذات التي تحاول أن تُسْقِطْ الإنسان في خطايا كثيرة، من أهمها خطايا الكبرياء والتعاظم والافتخار والاحساس بالنفس دون الاحساس بالآخر
الاتضاع أرض حاملة لكل الأثمار، وحاملة لكل الفضائل. والعالم يُحاول أن يجعل للإنسان ذات والذات هذه تقف أمامه كحجر عثرة أحياناً في الخدمة أو الأسرة او الكنيسة. إن بحث الإنسان عن أصل الخطية يجد أنها في الأصل ذات الإنسان، فهي التي تُسْقِطه
ولذلك يا إخوتي فترة الصوم المُقدَّس هي فترة تبدأ من المحسوس وهو الطعام والانقطاع عنه لكي ما ننمو يوماً فيوماً ونصل إلى حالة الاتضاع، ونتذوَّق هذا الاتضاع الذي يصل بنا إلى يوم خميس العهد حيث ينحني المُعلِّم والسيد ويغسل أرجل تلاميذه.. يظل الإنسان في جهاده كل يوم في الصوم إلى أن يصل إلى حالة الاتضاع التي رأيناها في ربنا يسوع المسيح في حال تجسده وهو ينحني أمام كل تلميذ ويغسل قدميه هذه هي صورة المسيحية، وعندما ينحني ويغسل أقدام تلاميذه نصل إلى صليب ربنا يسوع المسيح حيث يقف الإنسان عند الصليب ويقول مع المسيح: صُلِبْت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ
في فترة الصوم المقدس إعتادت الكنيسة أن تستخدم هذه الفترة لكي ما تُكرِّس من أبنائها مَن يخدموه.. نحن نفرح في هذا الصباح المُبارَك أن كنيستنا تُقدِّم من أبنائها سبعة من الشمامسة لكي ما يصيروا آباء كهنة في خدمة الكنيسة هنا في القاهرة وفي فرنسا وفي إنجلترا
والحقيقة زي ما السيد المسيح قال: الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا إلى رب الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده، في هذه الكلمات القليلة نقف أمام كلمة الفَعَلة لم يتذكَّر فقط كلمة خدام لكن ذكر كلمة الفعلة.. والفعلة يعني أصحاب التأثير، أصحاب الفعل، وليسوا أصحاب الكلام فقط.. الحصاد كثير في كل زمان حصاد المسيح كثير، وزي ما ذكرت في البداية إن إنجيل هذا الصباح يتحدَّث عن الحصاد، والحصاد في كل يوم
والحصاد بالمعنى الروحي فكرة مرتفعة جداً، الحصاد كثير، ومَن يعرفون المسيح، ومَن يولدون في المسيح، ومَن يسيرون في المسيح في كل يوم كثير جداً ولذلك العمل يتطلَّب وجود دائماً فَعَلة، والعمل الذي يتطلَّب فَعَلَة يتطلَّب في الحقيقة تفرُّغ كامل من أجل خدمة ربنا يسوع المسيح في كنيسته المُقدَّسة
الشمامسة والأخوة الذين بنعمة المسيح رُسِمُوا كهنة في هذا الصباح إنما للخدمة في كنائسهم هنا في القاهرة في كنيسة القديس مارمرقس الرسول بمصر الجديدة ثلاثة من الأخوة. وفي كنيسة الملاك ميخائيل والأنبا شنودة بعياد بك، وأيضا اثنان في خدمة الكنيسة القبطية في فرنسا، وآخر في خدمة الكنيسة القبطية في المملكة المتحدة، وزي ما إحنا شايفين الكنيسة تمتد وتنمو وتنتشر وتحتاج إلى القلوب التي تتكرَّس بالحقيقة، وهو فخر لكل أسرة أن تُقدِّم من أبنائها أو بناتها مَن يتكرَّسون، فهذا فخر أن الإنسان يستطيع بإرادته أن يُفرّغ حياته من الاهتمامات الأرضية لكي ما تكون كل اهتماماته خلاص النفوس، وأن يكون لكل نفس نصيب في السماء
الأخوة الذين بنعمة المسيح صاروا كهنة، يسير العمل الأول ليهم هو عمل الافتقاد والبحث عن كل إنسان، فهذا هو عمل الكاهن الأول عمله الخارجي أن يفتقد كل إنسان في أي مكان، وافتقاد الأب الكاهن لرعيته ولكل فرد دون أن ينسى إنساناً هو كمثل افتقاد اللَّه للبشرية عندما.. أحبَّ اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية، فهذا هو قانون الافتقاد زي ما اللَّه صنع مع الإنسان، وفي محبته القوية نزل إلينا وتجسَّد بيننا، والكلمة صار جسداً وحل بيننا لكي ما يتلامس مع كل إنسان ويصير اسمه عمانوئيل اللَّه معنا. الكاهن عمله الأساسي أن يفتقد قلب كل إنسان، وهذه الصورة صورة هامة جداً.. هو يفتقد الإنسان في مكانه، وهو يفتقد الإنسان بالتعليم، وهو يفتقد الإنسان بالخدمة هو يفتقد شغله الشاغل هو الرعية والبشر وكل إنسان
وعمل الافتقاد عمل في غاية الأهمية في تقليدنا الكنسي، وعندما يزور الكاهن البيت في التقليد الكنسي القبطي القديم والعبارة المشهورة في المجتمع المصري: إحنا زارنا النهارده المسيح.. والعبارة هذه عبارة قبطية وتقليدية قديمة إحنا زارنا المسيح، وأي كرامة ينالها هذا الأب الكاهن عندما يراه الناس حاملاً مسيحه ولابساً مسيحه ويفتقد الإنسان
والافتقاد يا إخوتي ليس هو المجاملة والافتقاد مش مجرد زيارة، لكن الافتقاد هو عبارة عن اهتمام وانشغال بالنفوس وهذا عمل هام جداً، ولذلك عندما نقيم الآباء الكهنة وهم في مراحل الشباب الناضج إنما تتوفَّر لديهم القدرة والصحة على الحركة، ففي أوقات الخدمة وفي عمر الخادم أو الكاهن أو الأسقف في فترات صحته القوية يتحرَّك كثيراً ويفتقد ويبحث ويزور، وعندما تتقدَّم صحته وتتقدَّم حياته وعمره يحتاج إلى قسط من الراحة وبالتالي تكون هناك أعمال أخرى كعمل الاعتراف مثلاً أو عمل القراءة أو التأليف أو الكتابة كعمل التعليم يكون أكثر لكن في أمور الحياة التكريسية يحتاج الإنسان إلى هذا الافتقاد وأن يستغل كل وقته من أجل افتقاد الرعية كاملة وهذه الوصية أوصيها للآباء الذين سيخدمون هنا في القاهرة فهي تحتاج إلى هذا جداً، وأيضاً لإخواتنا وكنائسنا الموجودة في الخارج، لأنَّ الرعية موجودة في كل مكان، فممكن يسافر مئات الكيلومترات علشان يوصل لأسرة، ونشكر ربنا أن الافتقاد النهارده بالزيارة، لكن ممكن استخدام وسائل أخرى مُعيَّنة أو مساعدة كالتليفون والرسائل والنت والحاجات المتطورة لكن يقف على رأسها الافتقاد الشخصي باعتبار أن هذا الافتقاد هو التواصل الحقيقي بين الراعي والرَّعية
الكاهن أيضاً يحتاج في حياته عندما يأخذ هذه الكرامة أن يحيا في نقاوة سلوك، طبعاً أنا لمَّا بقول الكاهن لم أقصد الكاهن كفرد ولكن الكاهن وأسرته زوجته الفاضلة وأبناءه الأحباء، فهُم وحدة واحدة يحتاج إلى النقاوة السلوكية. فعندما نقول في صلواتنا: أعطي بهائاً للإكليروس.. كلمة البهاء تعنى شيئين: البهاء يقصد به النقاوة القلبية.. طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون اللَّه.. نقاوة القلب والكاهن في خدمته يحمل كثيراً ولذلك يحتاج إلى نقاوة القلب كثيراً البهاء عبارة عن نقاوة داخلية، وأيضاً لمعان خارجي، واللمعان الخارجي أقصد به القدوة، فالكاهن عندما يُصلِّي ويقول: أعطي بهائاً للإكليروس، هذه النعمة يارب ساعد فيها هذا الإكليروس أن يكون في قلبه نقاوة وفي حياته الخارجية لمعان واللمعان يعني القدوة كما قال القديس بولس الرسول لأهل كورنثوس: تمثَّلوا بي كما أنا أيضا بالمسيح، تصوَّر كده خادم يقدر ويقول تمثّلوا بي كما أنا أيضاً بالمسيح، يعني كأنه يحمل بالحقيقة صورة المسيح لِمَن يخدمه، والكاهن فيما يُساعد كل إنسان على توبته يحتاج هو إلى التوبة، فلا يصح أن يصير الكاهن في بداية حياتة الكهنوتية شغال وراعي وعمال يتحرك وواخد باله من نفسه، وعندما تمتد الأعوام به ينسى، ويَنسى حياة التوبة، فالكاهن عمله (برسفيتيروس) يعني: مُصلِّي أو شفيع، هو يُصلِّي ويتشفَّع، لكن من ناحية الفعل هو يساعد كل إنسان على توبته، الكنيسة تُفرِّغه من أي مسؤلية، من أي شغل خالص لا يكون مرتبط بالعالم بأي شيء على أنه يكون في خدمته ووقته المتوفِّر يصير مساعداً لتوبة كل إنسان، لكنه هو أيضاً محتاج هذه التوبة، وهذا شيء أساسي في حياتنا أنه يبحث عن تنقية قلب كل إنسان، ولكنه أيضاً يُنقِّي قلبه
إذاً يا إخوتي الأحباء، ونحن نفرح جميعاً في إقامة هؤلاء الأخوة رُعاة في خدمة الكنيسة وخدمة ربنا يسوع المسيح، إنما نوصيهم بالافتقاد الدائم والمستمر على قدر الطاقة وقدر الصحة. ونوصيهم أيضاً بالنقاوة في حياتهم القلبية، وفي سلوكهم الروحي أمام الرَّعيَّة وأمام اللَّه وبالحاجتين دول أن يكون أمين في افتقاده ويكون نقي في حياته، فالحاجتين دول يصنع بهم اللَّه إكليل ويعطيه اللَّه له فيصير بالحقيقة أب وتتميَّز فيه روح الأبوة وتشعر وأنت بتسلّم على الكاهن مش بحسب سنه لكن تشعر بروح الأبوة التي تتدفَّق منه كل مَن يخدم الآباء الكهنة والآباء الأساقفة والشمامسة وكل مَن يخدم يحتاج إلى الصلوات الكثيرة التي تُساعده، نحتاج جميعاً إلى هذه الصلوات التي تسند والتي تُعين الكاهن في خدمته الكثيرة
المسيح يُبارِك حياتهم وأُسرهم وأولادهم وبناتهم، ويُبارِك عائلتهم وكنائسهم التي سيخدمون فيها، وكل الآباء الذين رسموا النهارده سيَخدمون مع آباء فهُم لن يكونوا في كنائس بمفردهم لكن هيكون هناك ارتباط بالآباء الموجودين معاهم وبالتالي كل هذا مُشجِّع على أن تكون حياتهم وخدمتهم مقبولة أمام اللَّه
يا أحبائي ونحن في فترة هذا الصوم المُقدَّس أن نعيش اﻻتضاع في معناه الواسع وأن نتذوَّق ونُمارِس اﻻتضاع في حياتنا كل يوم، وأن يُبارِك في هؤﻻء الذين سيخدمون اسمه القدوس ﻹلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى اﻷبد، أمين
No comments:
Post a Comment