فالذي يسعى وراء الفكر الخاطئ، هذا لا تأتيه الافكار وتتعبه، انما هو الذي يتعب نفسه بالافكار، انه يفتش عن مصادر الفكر فيرسل حواسه هنا وهناك بقصد ونية لكي تحصل له على مادة تغذي فكره ويفرح بذلك جدا ويشتهيه مثاله: النوع المحب للاستطلاع الذي يبحث عن اخبار الناس واسرارهم، وبخاصة ما يسئ اليهم ويسره ان يتحدث في امثال هذه الموضوعات، ويزيد على ما يسمعه تعليقات واستنتاجات من ذهنه، وحبذا لو كانت فضائح وشرورا وبهذا يكنز في ذهنه صورا تؤذيه روحيا.. وهكذا يقع في خطايا الفكر وخطايا اللسان او خطايا القلم ان كان كاتبا، وكل نوع من هذه الخطايا يغذي الاخر يسببه..
مثل هذا النوع من الناس، ان جلس مع احد من اصدقائه او معارفه، يبادره على الفور: ماذا عندك من اخبار؟ مالذي حدث لفلان او حدث منه؟ ماذا رأيت وماذا سمعت؟ ومارأيك في كل هذا؟ وماذا تعرف ايضا؟ ويظل ممسكا بهذا الصديق يستخرج كل ما عنده
انه بكل هذا، يضر نفسه ويضر غيره بما يعرف من اسرار الناس ومايرويه عنهم وكل شخص يصادفه في الطريق، يحاول ان يصطاد منه خبرا. وان جلس الى مائدة يأكل مع غيره، تجول عيناه ليعرف ما الذي يأكله فلان وكميته؟ وما طريقته في الاكل؟ وما الذي يحبه؟ وما الذي لا يقبله؟ وهكذا في باقي الاخبار حتى في صميم الخصوصيات!!
والعجيب في مثل هذا الشخص انه ان كان هناك شيئ ردئ يتهافت على سماعه، وان عرف شيئا حسنا لا يستقبله بحماس! انه يجمع الاخبار والاسرار، وحواسه طائشة وتسأله ما شأنك بهذا؟ وماالذي تستفسده من معرفة فضائح الناس؟ لا تجد جوابا! انه مرض، يصبح عادة عنده او جزءا من طبعه انها عادة حب الاستطلاع..
كم من اناس اضروا انفسهم واضروا غيرهم بحب استطلاع مالاشأن لهم به، ومحاولة كشف ما هو مستور من خصوصيات الغير، وربما بحيل غير لائقه تشتمل على خطايا اخرى كثيرة.. ولعل البعض يسأل: ماذا افعل ان لم اكن انا مصدر الفكر، بل ضحيته من اخرين؟ اقول لك ليس من صالحك ان تسمع اي خبر خاطئ، وان وصل اليك الخبر، فتعايشه ولا تجعله يعيش فيك. لا تستبق الفكر الخاطئ في ذهنك ولا حتى في اذنيك وابعد بكل جهدك عن الاشخاص الذين يسببون لك الفكر، وان اضطررت الى الاستماع اليهم بسبب خارج عن ارادتك فاشغل نفسك اثناء الحديث بموضوع اخر، ولا تأخذ معهم ولا تعط، ولا تركز في كلامهم وما سمعته من كلام خاطئ، ولا تعاود التفكير فيه مرة اخرى فان هذا يثبته في عقلك الباطن. واعرف انك ان تهاونت في طرد الافكار، فقد تلد لك افكارا اخرى. لانه لايوجد فكر عقيم. وقد يلد الفكر فكرا اخر من نوعه او من نوع اخر. وقد يلد انفعالا او شهوة، او مشاعر رديئة سيئة، وقد يلد خطايا يصعب طردها. ويصبح الفكر الخاطئ ابا لعائلة كبيرة. ان الفكر الخاطئ يجس نبضك اولا، ليعرف مدى نقاوة قلبك ومدى استعدادك الداخلي للتفاوض معه، فان رفضت التعامل معه، يعرف انك لست من النوع الرخيص السهل الذي يحب ما يعرضه، فيتركك، وان حاول ان يستمر، يكون ضعيفا بسبب نقاوتك الداخلية. اذن اغلق ابواب نفسك امام الفكر الخاطئ، لانه لا يستريح حتى يكمل، ان الفكر هو مجرد خادم مطيع ترسله الشهوة حتى يمهد الطريق امامها، ومن الصعب ان يبقى الفكر مجرد فكر دون ان يتطور الى ماهو اخطر، فالفكر يتطور في تنقلاته، من الحواس الى الذهن، الى القلب، الى الارادة. فان استبقيت الفكر في اذنيك ولو قليلا يزحف الى عقلك، وهنا قد يتناوله الخيال، فيلد منه ابناء كثيرين، وينمو الفكر في داخلك، حتى يصل الى قلبك، والى مشاعرك وعواطفك وغرائزك وشهواتك، وهنا تكون الحرب الفكرية قد وصلت الى قمتها، لانه بتداولك مع الفكر، يأخذ سلطانا عليك، لانه اجتاز حصونك ووصل الى قلبك. ما اخطر هذه الحالة، لانه فيها يكون قلبك هو الذي يحاربك، او تكون لك حربان: داخلية وخارجية، والداخلية اصعب.. ويكون وصول الفكر الى قلبك هو اقصى ما يتمناه. وحينئذ يجتمع بناته حولك وبناته هي شهوات القلب
فان سقط القلب في يد الفكر، تسقط بالتالي الارادة بسهولة، اذ يضغط القلب عليها، ان الارادة تكون قوية حينما يكون القلب قويا، وحينما يكون الفكر في الخارج، ولكن اذا ضعف القلب، تضعف الارادة تلقائيا، ان لم تفتقدها نعمة الله بقوة من فوق، ما اسهل ان تستسلم ويسقط الانسان في خطية عملية، فالحل السليم اذن هو عدم معايشة الفكر بل طرده. اذا سيطر الفكر على شخص، فليس فقط يقوده الى السقوط، انما بالاكثر الى مرحلة اخطر هي العبودية للفكر ودوام الخضوع له، فما دام الفكر يشعر بان قلب الانسان قد اصبح في يده، حينئذ يمكنه ان يستمر معه اياما او اسابيع، ويبقى ويبقى في ذهنه المستبعد له.. ويدخل الخيال، فيضيف اليه في كل حين شيئا جديدا، ويطرد منه كل شيئ خير، واذا بهذا الشخص ينام والفكر في ذهنه، ويصحو والفكر في ذهنه.. ويمشي او يعمل، والفكر قائم انها العبودية للفكر، وقد ييأس هذا الشخص، ويقول: خير لي ان انفذ ما يريده فكري، بدلا من ان ابقى في تعب منه..!
واذا نفذ ما يريده الفكر، ووقع في الخطية بالفعل، فان الخطية تريد ان تتكرر وتستمر، حتى تصبح عادة، وبدلا من العبودية للفكر، يدخل في العبودية لممارسة الخطية..
الحل اذا هو علاج المشكلة منذ البدء، وذلك بالبعد عن كل مصادر الفكر الخاطئ ومسبباته، علما بان فكر الخطية قد لا يبدأ بخطية، لانه بهذا يكون قد كشف نفسه، فيهرب منه القلب النقي او يطرده او يقاوم بكل السبل. لذلك يبدأ فكر الخطية بطريق ملتو يؤدي في النهاية الى خطية، والانسان الحكيم المختبر يعرف هذه السبل ويتحاشاها
مقال فداسة الانبا شنوده الثالث – بابا الاسكندرية 117 وبطريرك الكرازة المرفسية – في جريدة الأهرام – السنة 133 – العدد 44596 – يوم الأحد الموافق 11 يناير (كانون الثاني) 2009 ميلادية، 3 طوبه 1725 شهداء (قبطية)، 14 محرم 1430 هجرية (للهجرة) – الصفحة العاشرة (10)، قضايا وآراء،
http://www.ahram.org.eg