1 ـ خطبة تلبس ثوب فضيلة.
ما أسهل أن يقدم لك الشيطان بعض الخطايا بأسماء غير أسمائها، بأسلوب يسهل قبوله بحيث تلبس ثياب فضائل:
فالدهاء أو الخبث يطلق عليه اسم الذكاء ويقدم القسوة في معاملة الأبناء باسم الحرص علي تأديبهم بحيث إن لم يستخدم الأب القسوة، ضميره يوبخه، والتبرج، والتزين غير اللائق، يقدمها باسم الأناقة والنظافة، والتهكم علي الناس والاستهزاء بهم يقدمه علي أنه لطف وظرف، ومحبة ودالة، وخفة روح، ومحاولة للترفيه.
إن الشيطان لايقدم الخطية مكشوفة لئلا يرفضها الإنسان الحريص ـ بل يقدمها باسم مقبول، وهي هي ولافرق. يقول إنني سأدخل مع هذا الشخص في حرب مسميات، وأسقطه كما أريد، ربما دون أن يشعر، أو قد يشعر، وضميره لايبكته فلو أنني دعوته إلي الرياء ـ بهذا الاسم المنفر ـ فلن يقبله. اذن ماذا أفعل؟ أسميه عدم إعثار الآخرين أو القدوة الحسنة.
قال السيد المسيح: تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم قربانا لله. ويقينا إن الشيطان يقدم القتل إلي أولئك الناس، علي أنه غيرة مقدسة، أو دفاع عن الدين، أو تطهير للأرض من الخطاة.
والكذب يمكن أن يقدمه الشيطان تحت اسم الحكمة، أو كنوع من حسن التصرف، أو انقاذ للموقف! والطبيب قد يكذب علي المريض في تسمية نوع مرضه. ويعتبر هذا أمام ضميره أنه حفظ لمعنويات المريض، وحمايته من الانهيار لكي يشفي، والبعض يسمي بعض أنواع الكذب الأبيض! وما أشهر مايسمونها( كذبة) أبريل كنوع من الدعابة أو الفكاهة!
وبهذا الشكل ما أسهل أن يسمي الشيطان الرقص المعثر باسم الفن. وكذلك الصور العارية والماجنة هي أيضا فن، وبالمثل التماثيل العارية أيضا، وبعض التمثيليات التي يقولون عنها للرجال فقط! وتحت اسم الفن يخفي الشيطان كثيرا من الخطايا والمعثرات التي لاتستحق اسم الفن. فالفن الحقيقي له اسم جميل ومحترم.
إلباس الخطية ثوب الفضيلة هو حيلة ماكرة من الشيطان. أتراه يدعو البخل بخلا؟! ما كان أحد اذن يقبله، ولكنه يسميه حسن تدبير المال أو حفظ المال لحاجة المستقبل أو يسميه عدم التبذير أو عدم الإسراف!!
وإذا أراد الشيطان أن يمنع غنيا من أن يدفع للفقراء، يقول له: ليس من الخير أن تعلمهم الشحاذة، أو تعودهم علي التشرد والتواكل. إن عدم إعطائهم هو حكمة وعين الحكمة. لكي يبحثوا عن عمل، ويأكلوا خبزهم بعرق جبينهم حسب الوصية؟!
إن إعطاء الخطية اسم فضيلة، يشجع الناس علي الاستمرار فيها، ولايبكتهم ضميرهم علي مايفعلون. احترس اذن من المسميات الخاطئة، ولاتسمح للشيطان أن يخدعك، فإن الخطية هي خطية مهما اختفت وراء اسم آخر.
2 ـ من حيل الشيطان أيضا: الأمور الصغيرة:
إن الخطايا الكبيرة الواضحة الدنس، يحترس منها الإنسان الحريص علي نقاوته، ويفر منها: لذلك فالشيطان يؤجل محاربته بها، مادام هو منتبها لها. أما الأمور الصغيرة، فيحاربه بها، لأنه لايحترس منها، ولايهتم بها.. ويظن أن مثل هذه الأمور الصغيرة، إنما تحارب المبتدئين والصغار.. ويقول: أما نحن قد كبرنا عن أمثال هذه الأمور. لهذا يحاربه الشيطان بها.
فما هي هذه الأمور الصغيرة؟ وما أمثلتها؟
ربما تكون مثل تمسك الإنسان برأيه، وقد يكون خاطئا! ومع ذلك لايستشير أحدا، وقد يقول له الشيطان: وماذا في ذلك؟ أي خطأ فيه؟! وهل لابد أن تستشير؟ وهل عقلك لا يكفي؟ وما أعظم عقلك!.. وهكذا يسلك حسب هواه ويسقط..
وقد تكون الأمور الصغيرة مثل التساهل قليلا مع الحواس والقراءات والسماعات ظانا انها لاتأثير لها عليه! بينما قد يضره ذلك. وماتجلبه الحواس ينغرس في عقله الواعي وفي عقله الباطن، وتكون له ثماره الخطيرة، ولو بعد حين.. إن الأمور الصغيرة قد لاتكون صغيرة فعلا، بل الشيطان يسميها هكذا، وربما توصل إلي أخطر النتائج. إن الإنسان ينظر إلي الزنا والسرقة والكذب، وما أشبه علي انها من الكبائر، ولكنه لا ينظر بنفس الاعتبار إلي خطايا الفكر أو خطايا اللسان، ويعتبرها من الأمور الصغيرة، وهي ليست كذلك ـ وربما يهلك نتيجة لعدم حرصه في الكلام، وتؤخذ لفظة عليه مما يقوله، وتكبر وتصير جريمة قذف.. كما أن فكره ـ الذي يستهين به ـ قد يتحول إلي شهوة تؤدي به إلي السقوط.
حقا إن شيطان الأمور الصغيرة يمكن أن يهلك الإنسان.. فيمكن أن تغرق سفينة كبيرة، بسبب ثقب صغير في قاعها، والإنسان لايكون موته فقط بواسطة وحش كبير يفترسه، إنما يكفي لموته ميكروب صغير لايري بالعين المجردة..!
وأبشع العلاقات بين فتي وفتاة قد تبدأ بعلاقة بريئة جدا.. ولكنها ـ مع التساهل والدالة ـ تتطور إلي ماهو اسوأ وأخطر حتي تنتهي بخطية كبيرة.
وعوامل النصب والاحتيال، قد تبدأ بأمور بسيطة مثل الثقة مع الطرف الآخر، وفي ظل هذه الثقة التوقيع علي أوراق بدون حرص أو شك في النوايا. وينتهي الأمر أخيرا بكارثة اقتصادية سببها تلك الأمور التي تبدو صغيرة.
وقد تبدأ الكارثة الاقتصادية بأمور أخري صغيرة، أو تبدو أيضا صغيرة، مثل ضمانك لإنسان صديق لك، وتوقيعك علي ذلك. ثم يسافر ذلك الصديق إلي الخارج ولايعود.. وتطالب أنت بكل ماعليه من ديون أو مستحقات مالية. إن الخلاص من شيطان الأمور الصغيرة يحتاج بالضرورة إلي حياة التدقيق والحرص لئلا تتحول تلك الأمور إلي كبائر تهدد حياتك الروحية، وحياتك العملية أيضا.
مقال قداسة الانبا شنوده الثالث – بابا الاسكندرية 117 وبطريرك الكرازة المرقسية – في جريدة الأهرام – السنة 133 – العدد 44624 – يوم الأحد الموافق 8 فبراير (شباط) 2009 ميلادية، 1 أمشير 1725 شهداء (قبطية)، 13 صفر 1430 هجرية (للهجرة) – الصفحة العاشرة (10)، قضايا وآراء،
http://www.ahram.org.eg