بقلم: البابا شنودة الثالث
يقف أمامنا سؤال مهم: أيهما أفضل الصمت أم الكلام؟
لكل شيء تحت السموات وقت، فلا يجوز الصمت حين ينبغي الكلام، ولايجوز الكلام حين يجب الصمت، وقد قال الآباء: الصمت من أجل الله جيد، والكلام من أجل الله جيد، ولقد خلق الله الانسان كائنا عاقلا ناطقا، لكي ينطق ولكن بعقل، كما ان الله خلق للانسان اذنين ولسانا واحدا، لكي يسمع اكثر مما يتكلم، كما جعل الاذنين مفتوحتين باستمرار، اما اللسان فجعله في فم مغلق بشفتين وحول اللسان أسوار من الاسنان، كل ذلك لكي يستمع أكثر مما يتكلم، وقد جعل الله الاذنين كلا منهما في اتجاه، واحدة منهما في اليمين والأخري في اليسار، لكي من الناحية الرمزية يستمع الانسان إلي الرأي وإلي الآخر وبين الأذنين يوجد الرأس يرمز إلي العقل والفكر، للحكم بين الرأي والرأي الآخر. والكلام علي انواع: فقد يكون وصفا أو شرحا، وقد يكون فخرا وذما في الآخرين، وقد يكون عبادة أو مجونا، وقد يكون سؤالا أو حكما علي الآخرين، وقد يكون وعظا أو تعليقا علي الواعظ قد يكون نقدا أو إعجابا.. وفي كل ذلك وغيره ينبغي ان تكون الحكمة مشرفة علي ذلك كله. من جهة المشيرين: يحدث أن أبا في ساعة وفاته يترك وصية لابنائه، كما يحدث ان يتلقوا مشورات من آخرين: من قادة دينيين، ومن مدرسين ومعلمين، ومن بعض ذوي الخبرة، ومن آخرين، وقديما كان اشخاص يأتون من اقاصي الأرض ليسمعوا كلمة منفعة من أحد المتوحدين في البراري.. كل ذلك تتلقاه الأذنان، ويصل إلي العقل، وإلي الضمير، ويكون الانسان مستمعا لامتكلما.. واحيانا بالضرورة يلجأ إلي الحوار فيما يسمع، إما لكي يفهم، أو لكي يتأكد.. أما المتكلمون في أذنيه فيشعرون ان هذا واجب عليهم. ومع كل ذلك لقد قدم لنا التاريخ امثلة من الصامتين، كان النساك المتوحدون يرون ان الصمت افضل، لانهم بذلك يتفرغون للحديث مع الله وليس مع الناس، أما الصمت بالنسبة للناس العاديين فانه يعطيهم مزيدا من التفكير، عن أخطاء اللسان، وبالتالي حكمة في التدبير، والانسان الحكيم اذا سئل سؤالا، احيانا يصمت قليلا ثم يجيب، لكي يعطي مجالا ليقدم احسن اجابة، وذلك لان التعمق فيما ينبغي ان يقال هو افضل من التسرع في الاجابة عن شيء قبل فهمه جيدا واستيعابه بعمق
إن كان حكماء كثيرون قد فضلوا الصمت علي الكلام، ففي الواقع ليس كل صمت فضيلة، وليس كل كلام خطيئة أو نقصا، فكما اننا في بعض الاحيان ندان علي كلام خاطيء أو متسرع، فإننا في أحيانا اخري ندان علي صمتنا، فالمسألة تحتاج إلي حكمة وتمييز لنعرف متي نتكلم وبأي اسلوب؟ ومتي نصمت؟ وإلي متي ؟ لاشك ان هناك كلاما نافعا ومفيدا حين نتكلم بالصالحات، والصمت حالة سلبية، بينما الكلام حالة إيجابية. وإنما يدرب الناس أنفسهم علي الصمت كحالة وقائية من اخطاء اللسان، إلي ان يتدربوا علي الكلام النافع
وسوف نقدم هنا امثلة للكلام النافع، وهو كل كلمة تفيد السامع لبنيان عقله وروحه، ولثقافته وهدايته: من ذلك كلمة النصح والارشاد لمن يحتاج إليها، حتي لايضل الطريق، وكلمة الحكمة التي يجعلها السامع نبراسا له في طريق الحياة، وكلمة التشجيع لانسان علي حافة اليأس أو في حالة انهيار، لكي تبعث فيه الرجاء من جديد، وكلمة العزاء لشخص حزين. كذلك كلام التعليم علي شرط ان يكون تعليما سليما، يضاف إلي ذلك كلمة البركة من اب لابنه، أو من استاذ لتلميذه
كذلك كلمة التوبيخ المخلصة التي تصدر من صديق أو مرشد أو أب، لكي تحذر شخصيا يسير في طريق خاطيء، حتي يصحح سلوكه أو يمتنع عن خطأ سيفعله، كل ذلك يدخل في نطاق كلام المنفعة، لان من يسمعه ينتفع به
ما أكثر كلام المنفعة في الحياة العملية، من أجله تنعقد مؤتمرات التوعية في شتي المجالات: منها مؤتمرات الأسرة ليتكلم فيها متخصصون عن كيف يتعامل الخطيبان معا، أو كيف يسلك المتزوجون حديثا في حياة جديدة عليهم، أوكيف تحل المشكلات الزوجية دون ان تتسع أو تصل إلي المحاكم، ودون ان تدخل فيها الحموات فتعقدها، بل ربما يعقد مؤتمر أسري عن مثالية سلوك الحموات الفضليات.. كل ذلك كلام منفعة. تعقد مؤتمرات للشباب يسمعون فيها ممن هم أكبر منهم سنا، وأكثر منهم معرفة، يحدثونهم عن طاقة الشباب في تلك السن وكيف تستخدم، وعن المفهوم السليم لكلمة الحرية، والمفهوم السليم للقوة وعن النجاح في الحياة وكيف يكون؟ وعن العلاقة المثلي في محيط الأسرة، وبين الاصدقاء وفي المجتمع..وكل ذلك كلام نافع
مثل آخر هو المؤتمرات العلمية التي تعقد لكي يستمع فيها رجال العلم إلي آخر ماوصل إليه العلم في نقاط معينة
كل ذلك كلام نافع يسعي إليه الناس للاستفادة، يضاف إليه كلام الحكماء والادباء والمتخصصين في نطاقهم، وايضا كلام المسئولين إلي من هم تحت ادارتهم.. ويعتبر كل ذلك في حدود الواجب يلام من يقصر فيه
لايستطيع الاب ان يقول الصمت فضيلة ويقصر في تربية أولاده، بينما يقول الشاعر: وينشأ ناشيء الفتيان منا.. علي ما كان عوده ابوه
وكذلك الأم في تربيتها لاطفالها من بدء سنهم. هناك كلام يدخل في حدود الواجب، وهو لازم وملزم، فلايجوز التقصير في واجب التعليم والتهذيب والتربية. كذلك ان صمتنا عن الشهادة للحق ندان علي صمتنا وان أعطي صمتنا مجالا للباطل ان ينتشر وان ينتصر، كذلك ندان علي صمتنا وان قصرنا في إنذار البعض وأضر ذلك بنفسه أو بغيره ندان ايضا.. وهكذا إن رأيت شخصا يوشك ان يسقط في حفرة، ولم تحذره، فان سقط ومات يطالبك الله بدمه ويزعجك ضميرك.. بهذا يكون الواجب علي الرعاة والقادة ان يتكلموا، ويجب الكلام ايضا علي من كلفهم الله ان يقولوا كلمة الحق ويشهدوا لوصاياه
وحينئذ تكون الفضيلة ان نتكلم حين يجب الكلام
أما عن الصمت لكي نتقي اخطاء الكلام، وكذلك الحديث عن أخطاء الكلام وأداب الحديث فله منا بمشيئة الله مقال آخر
مقال قداسة الانبا شنوده الثالث – بابا الاسكندرية 117 وبطريرك الكرازة المرقسية – في جريدة الأهرام – السنة 133 – العدد 44701 – يوم الأحد الموافق 26 ابريل (نيسان) 2009 ميلادية، 18 برموده 1725 شهداء (قبطية)، 30 ربيع الاخر 1430 هجرية (للهجرة) – الصفحة العاشرة (10)، قضايا وآراء،
http://www.ahram.org.eg